تفضل عليّ أستاذنا الأستاذ الدكتور أحمد مطر العطية بنسخة من كتابه (دراسات في النحو واللغة) الذي تضمن سبعة فصول تناولت موضوعات نحوية مهمة، أما الفصل الأول فهو العدول في العربية مفهومه وبلاغته، واللغة لها أصول وأحكام عامة ولكن مستخدم اللغة ربما خالف عن تلك الأصول والأحكام لغايات إبلاغية وأغراض بلاغية، والعدول تخيّر لما هو استعمال جمعي تمكنه اللغة؛ فهو لذلك لا يعد من الشذوذ أو اللحن. وعالج فيه جانبين من جوانب العدول أحدهما العدول عن مطابقة النعت منعوته في العلامات الإعرابية، كما في قول عروة: سقوني الخمر ثم تكنفوني***عداةَ الله من كذب وزور فعداة نعت للفاعل الذي هو في محل رفع وكان الأصل يكون النعت مرفوعًا متابعة لرفع الفاعل، ولكنه عدل عن الرفع إلى النصب لينتبه السامع إلى الغرض الذي هو فوق وصفهم بالعداوة، قال العطية «فهو لا يريد أن يصفهم بأنهم عداة الله، فقد عرف ذلك عنهم واشتهروا به، ولكنه يريد أن يشتمهم ويهجوهم بهذا الشيء الذي يعلمه الجميع، فعدل إلى النصب». ويسمي النحويون هذا النعت المعدل به النعت المقطوع أي المقطوع عن المتابعة، وهم يخرجون هذا العدول بما يفسد الغرض رعاية لمقتضيات العمل الشكلية حين يقدرون ناصبًا لما نصب أو رافعًا لما رفع، ولو أنهم اكتفوا بتقرير العدول والمخالفة للمقتضى لكان أولى. وأما الجانب الآخر من العدول فهو العدول من الفعل إلى الاسم أو من الاسم إلى الفعل، وذلك في العطف حيث يتوقع السامع أن يعطف الفعل على الفعل ولكن يكون العدول إلى الاسم لتحقيق غرض بلاغي هو ما يتضمنه الاسم من دلالة على الاستمرار والثبوت في مقابل الفعل المتجدد المتغير، كما في قوله تعالى {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ}[الأنعام-95]، وعلى الرغم من أنه خص جانبين من جوانب العدول فقد عرض في أثناء بحثه لألوان أخرى من العدول. وأما الفصل الثاني فهو حروف الجر بين النيابة والتضمين وهو يعرض بهذا لقضية خلافية بين النحويين وهي متصلة بالموضوع السابق فناسب أن تأتي بعده فهي معالجة للعدول عن استعمال حرف الجرّ بدلالته المشهورة المقيدة لأكثر الأفعال فترى الحرف يستعمل في غير دلالته المشهور وفي موضع يتوقع أن يكون فيه حرف آخر، والمشهور عند القدماء والمحدثين أن الكوفيين يذهبون إلى نيابة الحرف عن غيره وأن البصريين يرون اتساع استعمال الحرف فيستعمل مع فعل لأنه يتضمن معنى الفعل المفترض استعماله مع الحرف. مثال ذلك استعمال الحرف (في) مع الفعل (صلب) في قوله تعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}[طه-71]، والأصل على جذوع النخل، فمن النحويين من قال نابت (في) هنا عن (على)، ومنهم من قال إن الفعل صلب تضمن معنى يقتضي الحرف (في) أي أنّ الظرفية مرادة وأن المقصود أن تكون الجذوع وعاءًا للمصلوب، وأستاذنا يوضح قضية مهمة أنّ الخلاف هذا ليس بين بصريين وكوفيين بل بين نحويين ونحويين؛ إذ نجد القول بالنيابة عند بصريين ونجد التضمين عند كوفيين أيضًا. وأما الفصل الثالث: فالإخبار بشبه الجملة، وعالج كون شبه الجملة خبرًا أو كونها متعلقة بالخبر، وعرض اختلاف النحويين قديمًا وحديثًا في هذه المسألة ليرجح مذهب الجمهور، وهو القول بأن الخبر هو متعلق شبه الجملة، وأيدّ قوله بما يقول به أصحاب المدرسة التحويلية وهو كون الجملة لها بنية سطحية مستعملة وبنية عميقة تحوّلت عنها البنية السطحية، وينسجم فعله هذا وسعي بعض النحويين التقليديين إلى تحسين صورة نحوهم. وعالج قضية حذف المتعلق جوازه أو وجوبه، والمشهور وجوب حذف المتعلق إن كان دالًّا على وجود عام مطلق، ووجوب ذكره إن كان دالًّا على أمر خاصّ، وبيّن أن السياق هو الفيصل، فقد يجوز ذكر المتعلق على عمومه وقد يجوز حذف الخاص إن دلّ عليه دليل، ولذلك لا مانع من القول زيد استقرّ عندك أو زيد عندك، وكذلك جاز العين بالعين والسن بالسن أي العين مفقوءة بالعين والسن مقلوعة بالسن. ووقف أستاذنا عند خلاف النحويين في المتعلق به أسم هو أم فعل، وعاب عليهم ما سماه بالجدل والسجال العقيمين وأنه وقوع منهم في حمأة جدل مضن لا طائل منه إلى أن قال «ولا ضير في أن نقدره فعلًا أو اسمًا»، والحق أن ما تداوله النحويون من جدل وسجال ليس بعقيم، بل هو دليل سعة أفق وحيوية في المعالجة والبحث والتناول؛ ولكن هذا المستوى من المعالجة غير مناسب للنحو التعليمي أو التطبيقي، ولعل أستاذنا التفت إلى هذا المستوى من النحو. ووقفنا على الخلاف في الإخبار بظرفي المكان والزمان؛ فالمشهور إطلاق الإخبار بظرف المكان عن أسماء الذوات والمعاني واقتصار الإخبار بظرف الزمان عن أسماء المعاني «لأن ظروف الزمان لا تكون أخبارًا عن الجثث». ولكن الخلاف وقع بين النحويين فمنهم من لا يفرق بين الظرفين، ورجح قول ابن مالك أن الزمان يخبر به عن الذوات إن أفاد ذلك. بقي القول إن أستاذنا يتابع ما شاع من إطلاق مصطلح (شبه الجملة) على الجار والمجرور والظرف وما أضيف إليه بغض الطرف عن المتعلق أسمًا كان أم فعلًا، والصواب عندي أن شبه الجملة هو ما تعلق باسم لا فعل؛ لأن شبه الجملة في الأصل هو المشتق العامل، فهو لا يؤلف مع مرفوعه جملة؛ ولذلك إن قدرنا المتعلق به حرف الجر أو الظرف اسمًا فذلك شبه الجملة، فإن قدرنا الفعل فتلك جملة.