فاجأنا وزير الخارجية الأميركي جون كيري مطلع ديسمبر (كانون الأول) الذي على أهبة الغروب لتشرق شمس اليوم الأول من عام 2017، بتصريحات قال فيها، وبما يشبه النصح للرئيس دونالد ترامب، إنه يأمل أن يستمر إرث أوباما في السياسة الخارجية. لو أن هذا الإرث كان سبيلاً من أجل إيجاد حلول كثيرة لقضايا مظلومة وغير محسوم أمرها لكُنا كعرب ممتنين؛ ذلك أننا عانينا من وعود حفلت بها سنوات الولاية الأولى للرئيس أوباما، ونكث لهذه الوعود مع بداية الولاية الثانية، وكيف أن السياسة الخارجية الأميركية التي يأخذها كيري على عاتقه كانت كثيرة؛ اجتماعاتٍ وتسويفًا وتصريحات لا تبشر بأي مردود طيِّب، وكانت أحيانًا من النوع الذي ينطبق عليه القول الشائع: «أسمع جعجعة ولا أرى طحينًا». بدأ كيري، كما رئيسه، في مرحلة جمْع الأوراق الخاصة بهما، وسينصرف كل منهما كما الذين سبقوهما إلى كتابة المذكرات أو إلقاء محاضرات أو المشاركة في ندوات، وسيردد كل منهما وسائر نجوم الحقبة الأوبامية من الكلام والمواعظ التي لو كانت أفعالاً وتنفيذًا لوعود وهم في دائرة القرار لكانت أفادتنا كعرب. كما قد يحذو أوباما الديمقراطي حذو الديمقراطي التاسع والثلاثين الرئيس جيمي كارتر الذي فاجأنا في تسعينيته يوم الثلاثاء 29 نوفمبر (تشرين الثاني) بدعوة الرئيس أوباما إلى الاعتراف بدولة فلسطين قبل انصرافه من البيت الأبيض يوم 20 يناير (كانون الثاني) 2017. وهنا يصح استحضارنا للمثل الشعبي المصري: «كنت فين يا خشب لما كنا نجَّارين؟!».. أي لماذا لم تفعل ذلك يوم كنت رئيسًا قادرًا وكنا كعرب، كما حالنا ماضيًا وحاضرًا، في أشد الحاجة إلى رئيس أميركي يبادر إلى ما دعا إليه وما وعد به أوباما. المهم أن الإرث غير مأسوف عليه لكي ينصح الوزير كيري الإدارة الترامبية بالحفاظ عليه وتطويره، إذ كيف المحافظة على ثماني سنوات أوبامية عجاف قاسيْنا كعرب ومسلمين فيها المرّ بأعلى درجات العلقمة، ثم ها هو العالم، عدا بضع دول، يعيش تحت كوابيس الإرهاب المتنقل والمتعدد الدوافع بحيث هنالك الذي غرضه تشويه الدين الإسلامي كما هنالك الذي دفعه جوْر تعامُل الأنظمة إلى أن يرُد بصيغة المنتقم أو المدمر ناشرًا «فروسية» لا تمت إلى جوهر الدين الحنيف، ونعني بها ظاهرة الانتحاريين. وأدلتنا على ذلك إزهاق روح سفير دولة كان يفتتح معرضًا فنيًا آملاً أن يمحو به الغشاوة الثقيلة الناشئة عن دور ضد الإنسانية يمارسه رئيسه في سوريا. وكي لا يبدو كلامنا ترميزيًا، فإن الرئيس هو فلاديمير بوتين، وأن سفيره هو الذي اغتاله دون وجه حق الشاب العشريني التركي الشرطي في مكافحة الشغب مولود ميرت ألطنطاش. وقبل أن يتمدد التعبير عن الضيق المختزن في النفوس بتنفيذ عمليات انتحارية مبغوضة شهدتْها مدن وعواصم أميركية وأوروبية، كان كبيرا المجتمع الدولي (أميركا وروسيا) المستملكان، وبأسلوب «الفيتو»، المحاصصة الدولية، على نحو ما هي عليه المحاصصة في لبنان عند تشكيل حكومة جديدة، وكيف تنتهي هذه المحاصصة إلى أن الوطن يتحول إلى غنيمة يتقاسمها رموز «العمل الطائسي» أي الطائفي - السياسي، لا يستحضر كل منهما الأحوال الناشئة عن الغبن الدولي الذي لو أُزيل لما كان هنالك إرهاب، أو حتى كان الإرهاب لا يتطور إلى الحد الذي جعل بعض جيوش الأمة العربية تخوض حروبًا عبثية، ولما كانت هنالك موجبات لكي يتحول تنظيم مشتبَه به من حيث النشأة والتسمين الخفي إلى أنه بات الطريدة التي تلتقي القوى العسكرية في العالم على التصويب نحوها، كما لا تكتفي دولة عظمى، مثل روسيا، بالمطاردة الرمزية على نحو ما تفعل دولة عظمى وأقل عظمة، وإنما تتصرف مع دولة تعيش ظروفًا قابلة لأي تسوية بين النظام والمنتفضين عليه، تصرُّف الحليف المحتل الذي كان يتطلع ماضيًا إلى موطئ قدم، فإذا به لا يجيز هذا الحليف، بعدما حقق استملاك الموطئ للنظام الذي استقدمه، اتخاذ قراره الوطني. وما هو مدعاة للاستغراب أن ذريعة الإرهاب واهية بالنسبة إلى الرئيس بوتين الذي استعجل النجدة الاحتلالية لإرادة النظام الذي استدعاه، وبصرف النظر عما إذ كان هذا الاستدعاء لردع نجدة احتلالية سابقة لم تثمر على النحو المأمول، ونعني بها النجدة الإيرانية، أو أنه لتجيير الوضع إلى دولة عظمى، وهو أمر لم يلق الاعتراض العملي من سائر الدول الكبرى؛ أميركا وبريطانيا وفرنسا والصين، ربما لأن هؤلاء أرادوا إغراق روسيا البوتينية في الرمال السورية، وتحديدًا الحلبية، وبصرف النظر عما إذا كان الإغراق سيكون على حساب البشر والحجر، فضلاً عن أن ما بعد الإغراق سيجعل روسيا تغرق في بحر تسديد التزامات إعادة البناء. ما هو جائز قوله إن «الفيتو» هو العلة بل لعله علة العلل أولاً وآخرًا، حيث تتفاقم الأمور بفعل تداعيات استعماله سواء من جانب الولايات المتحدة إزاء إسرائيل، وهذا زادها عدوانية على العرب، ورفضًا للحق الفلسطيني، أو من جانب روسيا، على نحو ما هو عليه موقفها من الموضوع السوري، حيث نراها ومن خلال استملاك حق استعمال «الفيتو» جعلت المحنة السورية تزداد تعقيدًا، وتبعًا لذلك سقط عشرات الأرواح وتشرَّد عشرات الألوف، وأما الدمار فإنه طال حتى التراث والمستشفى والمآذن والأسواق والمدارس. ويومًا روسيًا بعد يوم، باتت محنة اللجوء السوري توأم محنة اللجوء الفلسطيني. وكما أن «الفيتو» الأميركي لمصلحة إسرائيل أدى إلى أن الغضب والحرمان وقسوة العيش والإذلال أسس للتمرد على ما هو حاصل ثم إلى أن الرفض بات بتراكم السنين تربة ينمو فوقها الإرهاب، فإن «الفيتو» الروسي لإسقاط أي صيغة تسوية للمحنة السورية لم يتسبب فقط بتحويل الأزمة الاحتجاجية في سوريا إلى فواجع، وإنما إلى أن اقتراف الإرهاب بات في نظر أفراد عن اقتناع أو عن تغرير أو شحن مصحوب بتصوير الإرهاب من خلال زهْق أرواح بحزام ناسف أو بإطلاق الرصاص، على نحو ما فعل الشرطي التركي الشاب مولود ميرت ألطنطاش، الذي أرفق إطلاق رصاص مسدسه بعبارات المبتهِج بفعله. سيتواصل مسلسل الإرهاب الذي نراه يتمدد ويضرب في كل مكان. وإذا كان لن يتم التسليم بأن «الفيتو» هو العلة؛ كون استعماله يتم لجهة إذكاء مشاعر الظلم وتحديدًا في المنطقة العربية، وشهوات بعض الدول الكبرى مستملكة هذه الورقة، التي مردود استعمالها يشبه السلاح المحرم دوليًا، فإننا قد نشهد في عام 2017 من أنواع الإرهاب ما يشيب له شعر الرأس. لقد تم ابتداع «الفيتو» في الأصل من أجل ألا تنفرد إحدى الدول المستملِكة لهذه الورقة بشن حرب. لكن أليس الذي تفعله بالذات روسيا بعد أميركا هو شن الحرب بصيغة من التبريرات أو الاستهتار بالإنسانية وحقوق الشعوب؟! وحدها المبادرة العربية للسلام التي صدرت بموافقة إجماع الدول العربية عليها في القمة الدورية في بيروت، يوم 28 مارس (آذار) 2002، هي العلاج للعلة التي اسمها «الفيتو». ولقد آن الأوان للتصويت على قرار بوجوب اعتمادها حلاً في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة. والذي يعترض أو يستعمل «الفيتو» يكون هو عمليًا راعي الإرهاب ومموله ومدربه وغاسل أدمغة أفراده. إرهاب «داعش» ونتنياهو... وكل مَن يقتل نفسًا حرَّم الله قتْلها.