الأزمة الطائفية الحالية في اقليمنا ليست وليدة اللحظة، ولعلها تشكل إحدى الحلقات المتجددة والمستمرة منذ 1400 سنة وحتى الآن، ولا نعلم متى ننتهي من هذه الدوامة البغيضة من التراشق والتشنج والتكفير ودعوات الإقصاء! نعم هي ليست وليدة اللحظة، ولفهم أبعادها نحتاج لمراجعة عميقة للتاريخ والسياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع، ولن يسعنا التطرق لكل ذلك في مقال كهذا بالطبع، لكن إحدى القضايا المثارة دائما في خضم المجادلات الطائفية هي مسألة التقية، وهي التي أحب أن ألقي عليها بعض الضوء اليوم، وذلك لفهمها الخاطئ من قبل البعض أحيانا، وتوظيفها الخبيث من قبل آخرين بهدف ترسيخ عدم الثقة بين أبناء المجتمع الواحد عبر الأجيال! مسألة التقية، وبعيداً عن تأصيلها الديني والشرعي، هي رد فعل طبيعي تلجأ له الأقليات المجتمعية في ظل اضطهاد وقمع الآخرين لها، فتقوم الأقليات بكتمان عقائدها ومبادئها وأحيانا تظهر خلاف ما تعتقد به خوفا من بطش الأكثرية المتحفزة ضدها، وهي بهذا المقدار تعبر عن أداة للبقاء والحفاظ على النفس والجماعة، وقد مارستها شتى الجماعات البشرية عبر التاريخ، وفي سياقنا الإسلامي فقد مارستها الكثير من الطوائف في ظل استهدافها من قبل السلطات الحاكمة أو السائدة في بقعة جغرافية أو لحظة زمنية ما، وقد ارتبط مفهوم التقية وممارستها تقليديا بالطائفة الشيعية بشكل أساسي، رغم أن طوائف أخرى مارستها أيضا بشكل أو بآخر، والمطلعين على التاريخ يدركون ذلك جيدا! مشكلة التقية في سياقنا الإسلامي هو أنه تم نزعها من سياقها التاريخي وتوظيفها في خضم صراعاتنا الطائفية لزرع أزمة ثقة دائمة بين أتباع المذاهب المختلفة، فأي دعوة للتقارب والتماهي مع الآخر المختلف مذهبياً يتم اتهام صاحبها بأنه يتحرك وفق منهج التقية التي تدفعه لإظهار ما لا يبطن، وأن ما يقوم به ما هو إلا عمل نفعي غير مبدئي وسينقلب عليه متى ما تغيرت المعادلة السياسية والمجتمعية لمصلحته، وعندها سيكشر عن أنيابه وينقض على مخالفيه بكل شراسة! في ظل هذا التوظيف السيئ لمسألة التقية تتم قراءة الكثير من السلوكيات والمواقف المختلفة بين أبناء المذاهب الإسلامية، ففي أي قضية خلافية مثلاً، حتى تلك القضايا السياسية البعيدة عن الدين والمذهب، إن أعلن شخص من مذهب معين موقفاً متفقاً مع رأي أبناء المذهب الآخر، يتم التهامس بأنه يمارس التقية في اتخاذ ذلك الموقف، وإن اتخذ موقفاً مغايراً لهم تصايحوا بأنه قد كشف عن دخيلة نفسه وما في نفوس «جماعته»! لكل ذلك، فإن قضية التقية يجب أن نعيد قراءتها من جديد من زوايا تاريخية واجتماعية مبتعدين قليلا عن القراءة العقدية والفقهية، لنحررها من الاستغلال الطائفي الذي يكرس أزمة الثقة بيننا لخدمة من لا يريدون لمجتمعاتنا الخير. نريد أن نثق في بعضنا البعض... وأن نترك عنا سوء الظن.. فلنحاول ذلك ولو قليلاً! alkhadhari@gmail.com Twitter: @dralkhadhari