الإحداث العنفية التي جرت يوم الاثنين الماضي، تفترض تصورا راسخا ينظر الى كون الإرهاب ما زال قوة عارية وطليقة، له قدرة التحكم بمجريات أمور لا تخلوا تداعيتها من تبعات قادمة على المستوى الإقليمي والدولي. ثلاث اعتداءات إرهابية جرى تنفيذها في يوم واحد. قتل 12 شخصاً دهسا، وإصابة 48 بجروح على إثر اقتحام شاحنة سوقاً شهد تجمع شعبي بمناسبة قرب أعياد الميلاد ورأس السنة في ساحة بريتشيد في برلين، والتي أشير فيها بأن السائق "مازال طليقا حتى الآن" دهس هذا الحشد عمداً بقصد تنفيذ اعتداء، فيما اعتبرت وزارة الداخلية الألمانية هذا الحادث بكونه عملا إرهابيا. هذا الحادث الذي يذّكر بعملية اعتداء مماثلة حصلت في نيس، جنوب شرق فرنسا، في يوليو الماضي أوقع 86 وعشرات الجرحى، عندما دهس سائق تونسي بشاحنة حشدا حضر إطلاق العاب نارية بمناسبة العيد الوطني الفرنسي. كان الحادث الثاني قد جرى بإطلاق شخص أوروبي النار على مصلين في مركز إسلامي في زيورخ أدى الى سقوط 3 جرحى. لكن يبقى أكثرها خطورة في صورته السياسية، اغتيال السفير الروسي لدى تركيا، أندريه كارلوف، خلال إلقائه خطاب في افتتاح معرض فني في أنقرة، أثر هجوم بإطلاق نار من قبل رجل أمن تركي. الإحداث التي حصلت في برلين وزيوريخ وأنقرة، تشي بحضور التطرف والعنف في أكثر من مكان، وتنفيذه علانية بوسائل هي أحيانا غير متوقعة ولا مسبوقة وأحيانا مكررة، على الرغم من تأكيدات عديد الدول ومؤسساتها الأمنية، الغربية خاصة، على التشديد على تحركات الارهابين والمتطرفين وملاحقتهم. ثمة تبعات مختلفة تحيل إليها مثل هذه الهجمات، تلك التي تتعلق بإرهاب الإسلام السياسي في حادثي ألمانيا وتركيا، ولكنها مختلفة في حادث سويسرا، حيث الفعل ألأخير يضاهي الأول لجهة دافعية كراهية دينية، ولكن بالضد منه لجهة قيام متطرف أوروبي بالهجوم على مسلمين. وهو ألآمر الذي يخالف بعض ما قاله الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بإدانته إحداث برلين من "إن تنظيم داعش وإسلاميين آخرين يهاجمون باستمرار المسيحيين في مجتمعاتهم وأماكن عبادتهم". ينظر الألمان ألآن الى حادثة الدهس بكونه استهدافا لمجتمعهم الحر وتقويض لأرادتهم في العيش بحرية من قبل الإرهاب، كما أنه يطال هويتهم المسيحية لكون مكان الحادثة كان سوقا لعيد الميلاد المسيحي. ذلك ما عبرت عنه عديد الآراء في الصحف والإعلام الألماني. ثمة ردة فعل تجلت عبر مخاوف من كون الألمان سيتضاءل لديهم كثيرا اهتمامهم المشهود بالدفاع عن المهاجرين، في ظل شعور عميق بعدم الأمان. مثل هذا التغيير سينعكس كذلك على حجم التأييد الذي ستلاقيه توجهات الفكر اليميني القومي الألماني، والذي بدا صوته يرتفع عاليا وبغضب مستغلا الحادثة لإغراضه السياسية، حين حمّل أحد كوادر حزب البديل اليميني المناهض لهجرة اللاجئين المستشارة الألمانية ميركل ما حصل لسماحها لما يقارب المليون من اللاجئين من دخول ألمانيا، وعبر تغريدة كتبها على تويتر، قائلا " هؤلاء قتلوا بسبب ميركل"، فيما ذكرت زعيمة الحزب فراوكه بيتـر أن "ألمانيا لم تعد آمنة". أي كانت الجهة التي سوف تتبنى مقتل السفير الروسي في أنقرة أندريه كارلوف أو الكشف عن الخلفية التنظيمية لمنفذ الاغتيال رجل الأمن التركي مولود ألتنتاش، إلا أن الأمر يشير في تداعياته لمرحلة ما بعد سقوط حلب ببعدها المأساوي والمدوي. لقد صرخ ألأخير بعد لحظة الاغتيال "لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا... كل من له يد في هذا الظلم سيدفع الحساب". يستدعي هذا الموقف التساؤل عن حجم قوى التطرف في تركيا العلمانية، تلك الصورة الخفية التي كشفتها عملية الاغتيال، وما ستسفر عنه التحقيقات من تورط خلايا نائمة قيض لها الدخول والانتساب الى الجهاز الأمني التركي. لطالما تتهم تركيا جماعة فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة، الذي يتهم القاتل بدوره بالانتماء إلى تياره، بتشكيل أو إدارة تنظيم إرهابي مسلح تسميه "الكيان الموازي"، الذي تتهمه بالتغلغل في سلكَي القضاء والشرطة والتي أعادت تأكيده من قبل وزير خارجيتها من كون تركيا تعلم الى أن تنظيم غولن هو من يقف وراء اغتيال السفير كارلوف. حضور الإرهاب في تركيا بهذه النزعة السافرة وتنامي صور متعددة من العداء ضد روسيا بعد تداخلاتهم الى جانب نظام الأسد ودعمه في حربه ضد المسلحين، وخاصة مع ردود الفعل الغاضبة لما حصل في حلب، مثل هذا الحضور الذي بات متزامنا مع صعود اليمين المتطرف الأوروبي متمثلا خاصة بحزب الاستقلال البريطاني وحزب الجبهة الوطنية الفرنسي وحزب البديل الألماني وحزب بوديموس الإسباني وحزب الحرية النمساوي وحركة "النجوم الخمس" الإيطالية، وداعما في الوقت ذاته، بعد أحداث برلين وأنقرة، استحقاقات الانتخابات القادمة في ألمانيا وفرنسا، لابد أن يفترض حقيقة أن الإرهاب والتطرف القائمان على العنف والكراهية والتمييز ورفض ألأخر، هما سمة المرحلة القادمة التي سترسم سياسات المنطقة عربيا وإقليميا الى جانب الغرب. ثمة استفادة معلنة للإرهاب من منظومة علاقات سياسية تديرها وتوجهها أحزاب اليمين المتطرف، لجهة مناهضتها للهجرة واللجوء وتعزيز النزعة القومية المنغلقة والتشديد على سياسات الأمن والدفاع وقضايا التقييد على الحريات والنظر الى لحظة الصراع كما بينتها الإحداث الأخيرة، باعتبارها "صراع ديانات على الصعيد العالمي"، كما عبر عنها الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب. لم يعد التفكير من أن الإرهاب هو ظل لعولمة متوحشة، وهي مثله قائمة على الانحدار ألقيمي، وعابرة للسمة الوطنية ومتجاوزة للحدود السياسية، وهي غير محددة المعالم وغير مرئية، بل بات ينظر له في كونه ذات منبع ديني. هكذا وعبر مثل هذه التصورات الشعبوية يريد الرئيس المنتخب أن ينظر الى العالم والى العلاقات القائمة فيه. ترامب يريد عالما يليق به وبتطرفه. سعد القصاب كاتب عراقي يقيم في تونس