الحياة ليست سهلة هنا.. هنا كل شيء يذكرنا بالموت، ويسرق منا أي لحظة يمكن أن نحس بها بالحياة، فكلما أردنا الخروج من المقبرة اصطدمنا بجدران الفقر والتهديد المباشر بطردنا من مأوى لا يليق بحياة الآدميين. بهذه الكلمات يصف «أبو العبد» في الستين من عمره، حياة الآدميين الأحياء في مقابر غزة، ويضيف بأسى يخلع القلب: «نحن لا نحمل إلا حلماً وحيداً على عكس ما نحمله من هموم تعجز الجبال عن حملها، وهو أن يكبر أبناؤنا وأحفادنا خارج أسوار المقبرة، وأن يحلموا بمكانة اجتماعية أفضل، في مكان حتى وإن كان صغيراً، ولو في بيت من طين، المهم أنه يتسع لأبنائهم. «هناك حيث لا حياة.. حيث السكون دائم.. اتخذوا لهم مأوى، أطفال ونساء وشيوخ يعيشون كالأموات، لا يختلفون عنهم إلا بقلوبهم التي لا تزال تنبض.. لم يكن ذلك المكان خيارهم، بل لأنهم لم يعرفوا غيره.. أجبرتهم عليه الظروف بعد ما ضاقت بهم أرض الأحياء فلجأوا إلى أخرى، أو لربّما كان سهلاً أن يحتلوها لأنه لم يشأ سكانها المسالمون الدفاع عنها فلا حول لهم ولا قوة، لكن ضريبة العيش لم تكن أبدا سهلة عليهم، فقد تلونت حياتهم بالسواد وامتزجت بنكهة الموت، يتظاهرون بأن الأمر أصبح طبيعياً لديهم، لكن مآسيهم وأوجاعهم وهمومهم تتحدث عن أحلامهم التي لم تتخطَّ أربعة جدران خارج المدافن وجيران غير الموتى. وتشير معطيات حول سكان المقابر في القطاع، إلى أن بعض أطفالهم، من كلا الجنسين، يصطفون في طابور طويل على الأبواب المتعددة للمقبرة، وينتشر البعض الآخر بين شواهد القبور، يحملون بين أيديهم جالونات وزجاجات بلاستيكية من مختلف الأحجام والأنواع والألوان المليئة بالماء، كلاً منهم يسارع الخطى نحو القادمين الجدد من المواطنين الذين يحملون على أكتافهم نعشاً يضم بين جنباته جثمان ميت عزيز على أهله، وألسنتهم تلهث بالدعاء له بالمغفرة والرحمة. يحاولون جاهدين أكثر من مرة التسلل بين جموع المشيعين للوصول إلى حافة القبر، ويُطردون المرة تلو الأخرى، ويُسحبون من ياقات قمصانهم البالية إلى الخلف، ويُعنَّفون من البعض إن لم يكن من الجميع، ولكنهم في نهاية المطاف يصلون بشق الأنفس إلى مبتغاهم، فيجلسون عند حافة القبر بالقرب من رأس الميت، وما إن يوارى جثمانه الثرى، حتى تمتد أيديهم بما يحملونه من أوعية مليئة بالماء لترطيب القبر، وسد شقوقه بالطين المخلوط بالماء. قد يعتقد البعض للوهلة الأولى أن جلب الأطفال للماء ومد المشيعين به، يأتي من باب كسب الحسنات، ولكن ما إن ينتهي الجميع من دفن موتاهم ويهمون بالمغادرة، حتى تتكشف حقيقة الأمر حين تشاهد عشرات الأيدي الصغيرة ممتدة من كل حدب وصوب نحو الجميع دون استثناء، فهذا يُطلب ثمناً لزجاجته، وذاك يطلب ثمناً لجالونه، وتلك تقف على باب المقبرة تستجدي المغادرين للحصول على بعض النقود كونه لم يُسمح لها بالتسلل كأقرانها الأطفال من الذكور بين جموع المشيعين. أحلام الناس صغيرة على عكس همومهم، ويؤكد أحد سكان القبور في غزة أن أحلام الناس في غزة صغيرة ولكن همومهم كبيرة، بسبب الفقر والحصار والحرب التي فرضت عليهم ودمرت بيوتهم، وأتت على ممتلكاتهم، فأصبحوا غير قادرين على دفع إيجارات باهظة، فباتوا يزاحمون الأموات بالسكن بجوارهم، والاستظلال بشواهد قبورهم». وأشار إلى أن سكان المقابر لم يعودوا كمعظم أهل غزّة يفرّقون كثيراً بين الحياة والموت، لأنهم «أحياء مع وقف التنفيذ»، أي أنهم أحياء ولكن شبه أموات في الوقت نفسه، بفعل الحصار والضائقة المعيشية التي يحيون في كنفها. من جهته قال الإخصائي النفسي في برنامج غزة للصحة النفسية الدكتور سمير زقوت، إن عملية التنشئة الاجتماعية من أهم العمليات تأثيراً في الأبناء في مختلف مراحلهم العمرية، لما لها من دور أساسي في تشكيل شخصياتهم وتكاملها، وقال زقوت إن السلوكيات المنحرفة التي تصدر عن بعض الأبناء، تُعد نتاجا للقصور في التنشئة السوية لهم، إلى جانب الظروف المعيشية القاسية التي يُعاني منها معظم سكان المقابر، موضحاً أن من أهم السلوكيات المنحرفة التي تصدر عن الأبناء من سكان المقابر نتيجة المناخ الاجتماعي، المشاجرات، السرقة، التسول، الشتائم البذيئة، المعاكسات، الهروب من المدرسة، التدخين والمخدرات والجنسية المثلية، الهروب من المنزل. وذكر أن الغالبية العظمي من الأسر التي تقيم في المقابر توفر احتياجات الأبناء من الغذاء والكساء والعلاج، ولكن ليس بالقدر الكافي الذي يفي باحتياجات الجسم، فمعظم الأسر التي تقيم في المقابر توفر للأبناء الملابس، إلا أن هذه الملابس لا تأتي إلا في الأعياد والمناسبات، وهي ملابس رثة. وأوضح زقوت أن الحصارِ الإسرائيلي والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على سكان القطاع، اضطرت العشرات من عائلات غزة إلى مزاحمة الموتى، والعيش بجوار قبورهم في الفترة الأخيرة، فالحياة ليست سهلة، وفي المقابر يفتقر الناس إلى كل شيء حتى الحياة الكريمة التي هي من حق كل إنسان، الناس هنا يشبهون الأموات، أبناؤهم في الغالب يعانون من حالة نفسية صعبة، فهم محرومون من أبسط الحقوق، وهي الاستمتاع بطفولتهم حيث إنهم يتحملون المسؤولية منذ الصغر، يعرفون معاناة العمل والبحث عن لقمة العيش، ومعظمهم لا يدخلون المدارس ولم يتعلموا شيئا، ويعانون حالة نفسية تظل عالقة في أذهانهم، وتؤثر في تصرفاتهم. ولم يختلف حديث أبو علي عمن سبقه، والمنطقة التي يقطن فيها أبو علي كانت تستخدم كمقبرة لدفن جثث الشهداء المصريين إبان حرب عام 1967، حيث كان للجيش المصري على مقربة من المقبرة معسكر يقيمون فيه، وبعد أعوام استخدم نفس المكان لدفن أهالي المدينة. الطفل حسام الذي يقف بجوار بعض الجالونات والزجاجات المليئة بالماء التي كان يسندها في ظلال أحد القبور، قال: «إحنا عايشين هنا، وما بنعرف غير هذا المكان، بطلنا نخاف من القبور والميتين لأنه كل يوم بنشوفهم، ومرات كثير بنيجي نساعد الناس وبنجيب لهم مية عشان يرشوا على القبر، وبنلعب هنا كمان، ولما أكون زهقان من البيت باجي ألعب مع صحابي بين القبور». وأضاف حسام: «ولكن أكثر ما يضايقني ويجعلني أخجل، هو أن يسألني أحد زملائي في المدرسة عن عنوان سكني، وأنا أزور أصدقائي وزملائي في منازلهم، حتى لا أضطر إلى دعوتهم لزيارتي في منزلي وسط القبور». وتشير مصادر رسمية، إلى أنها ليست قضية عائلة أو اثنتين يمكن العمل على حلها، بل هي قضية 45 عائلة تعيش في المقابر وجميعها تبحث عن حل من أجل إيجاد مأوى يضمن لهم العيش بكرامة هم وأبناؤهم، ولكن الظروف الحالية التي يحياها الجميع بعد الحرب المدمرة، وعدم وجود مواد خام للبناء، جعلت كل شيء صعب المنال.