محمد حماد توقفت طويلاً أمام حديث خباب بن الأرت وشكواه ومعه بعض المستضعفين من المسلمين ما يلاقونه من عنت وتعذيب المشركين لهم وما قاله لهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أدرك المعاني التي وراء الحدث لأتبين في النهاية أن ثلاثة عشر عاماً في مكة وفي قلب الصراع مع القديم والموروث كانت هي مصنع الرجال الذين غيّروا وجه التاريخ، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، واختبرت عزائمهم، فلم يلينوا ولا تراجعوا، فحق لهم النصر في النهاية. صلابة فريدة وخباب بن الأرت واحد من هذا الجيل العظيم الذي تلقى تربيته على يد سيد المرسلين، وكان الحق يملؤه، فلم يكتم إسلامه عن أحد، فمع أنه القن المملوك لسيدته، الذي لا عصبية له تحميه، وليس له من يمنعه من عتاة المشركين، ومن تكبرهم واستعلائهم على الضعفاء، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يكون أول من أظهر الإسلام بمكة، وكما هو متوقع، وكما هي طبيعة المعركة بين الحق والباطل، أوذي خباب وعُذب، وفتن في دينه، فبعد أن بلغ خبره أم أنمار استشاطت غضباً، وتميزت غيظاً، وصحبت أخاها سباع بن عبد العزى، ولحقت بهما جماعة من فتيان خزاعة ومضوا جميعاً إلى خباب، فوجدوه منهمكاً في عمله، فأقبل عليه سباع، ودار بينهما حوار يشي بشخصية ونفسية خباب القوية المؤمنة، قال سباع: لقد بلغنا عنك نبأ لم نصدقه، فقال خباب: وما هو؟ قال سباع: يشاع أنك صبأت وتبعت غلام بني هاشم، فقال خباب في هدوء: ما صبأت، وإنما آمنت بالله، وحده لا شريك له، ونبذت أصنامكم، وشهدت أن محمداً عبد الله ورسوله. رحلة العذاب وكما حدث مع كثير من الصحابة الأوائل، بدأت من تلك اللحظة رحلة خباب مع العذاب، فما أن لامست كلماته مسامع سباع ومن معه، حتى انهالوا عليه ضرباً بالأيدي والأقدام، وبما يصلون إليه من المطارق وقطع الحديد، ولم يتركوه إلا وقد فقد وعيه، والدماء تنزف منه، وتزايدت موجات التعذيب وتعددت صنوفه، حتى إنهم كانوا يضعون الحديد المحمى على جسده فما يطفئ النار إلا الدهن الموجود في ظهره، ما دفعه هو ومن معه ممن لا ظهر لهم ولا مانع إلى أن يرفعوا شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر لهم الله عز وجل، يقول خباب: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟ ويأبى صانع الرجال ومعلم الأجيال، إلا أن يشد من أزر خباب ومن معه، ويبعث فيهم الأمل، ويبشرهم بنصر دين الله، مذكراً لهم بمن سبقهم على الدرب، يقول خباب: فقعد وهو محمر وجهه فقال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد، ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. تحمل الصحابة الأوائل رضوان الله عليهم من البلاء العظيم ما تنوء به الجبال، وبلغ بهم الجَهْد ما شاء الله أن يبلغ، لكنهم ثبتوا، وضربوا لنا المثال في الصبر والثبات، ومن قلوب أتعبها العذاب، وأنهكها الجهد، وهدتها البلوى، جاءت الشكوى تلتمس الفرج العاجل، وتستبطئ النصر فتستدعيه، ومع ذلك احمر وجهه صلى الله عليه وسلم وقعد من ضجعته، وخاطب أصحابه بهذا الأسلوب القوي المؤثر، ثم عاتبهم على الاستعجال، يريد أن يربيهم على أن الصبر يسبق النصر، وأنه هو الوسيلة العظمى والزاد النافع لهم في طريقهم الطويل الصعب الشاق الوعر، ومع ما هم فيه من شدة وبلاء فتح لهم صلى الله عليه وسلم باب الأمل حتى يقويهم على طاعة الصبر، فقال: والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون. أعظم أجيال البشرية لم يعد الله عز وجل المسلمين في العهد المكي بالنصر وحسن العاقبة، حتى يتربوا على أن التضحية والتفاني في سبيل الله وحده والتجرد من أهداف الدنيا، والتطلع إلى ما عند الله، خير وأبقى، ولم يزل الرسول صلى الله عليه وسلم يغذي أرواح أصحابه بمعاني الإيمان، ويزكي نفوسهم بالقرآن، ويرتفع بنفوسهم إلى منازل سمو الروح وحسن الخلق، ويأخذهم بالصبر على الأذى والبلاء، والصفح الجميل، حتى ازدادوا ثباتاً على الدين، وتحلياً بالصبر، وعزوفاً عن الشهوات، وحنيناً إلى الجنة، وكانوا أعظم أجيال البشرية قاطبة، فتح الله عليهم مشارق الأرض ومغاربها، وأصبحوا أسياد العالم بعد أن كانوا مذلولين مقهورين مضطهدين: وجعلنا منهم أئمة بأمرنا لما صبروا. ضرب النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الأبرار المثل الأروع في الصبر، وكان ذلك جهادهم الأكبر، وقد قيل بحق إن الصبر على الأذى هو جهاد النفس، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قوله: الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله. لم يكن الصحابة وحدهم المطالبين بخلق الصبر فنحن أيضاً أحوج إليه في زماننا هذا، وفي مواجهة كل ما يصيب المسلم من بلايا الدنيا، والأحاديث في فضائل الصبر كثيرة منها ما أخرجه الشيخان في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفّر الله عز وجل بها عنه، حتى الشوكة يشاكها، وفي رواية أخرى: ما يصيب المسلم من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفّر بها من خطاياه، وفي حديث آخر: لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة، في جسده، وفي ماله، وفي ولده، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر. أنواع الصبر والصبر كله خير، وهو عون للعبد على كل خير، صبر يعينه على الاستقامة على الطاعة، وصبر يعينه على الكف عن المعاصي، وصبر يعينه على تحمل الأقدار والرضا بها والطمأنينة، وهذا هو النوع الثالث من أنواع الصبر، صبر على المكاره والشدائد والمصائب والبلايا وكل ما يزعج النفس من ألم أو أذى أو ضيق معيشة أو حزن يلحق الإنسان بسبب مصيبة، كالصبر على الأمراض وزوال الصحة أو على شدة مرارة الفقر أو على فقدان من يعز من الأهل والأصحاب والأصدقاء وهلاك الأموال وغيرها كثير، قال تعالى: لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور، فمن ابتلي بأي مصيبة من هذه المصائب فصبر عليها فهو عند الله في خير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يرد الله به خيراً يصب منه، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: الصبر يأتي على قدر البلاء. والصبر جزاؤه الجنة، ومن أعظم الصبر أن يصبر المؤمن على مخالطة الناس فيصبر على أذاهم، وأكمل المؤمنين من جمع بين الصبر على المصيبة والرضا عن الله تعالى، يرجو ما عند الله من الثواب الذي وعد به الصابرين الصادقين، وقد ورد الصبر في القرآن الكريم في نحو تسعين موضعاً، وجعل أكثر الخيرات والدرجات ثمرة للصبر فقال تعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.