ما لا تستطيع فهمه، وإذا فهمته لا يسعك غفرانه ـ بالطبع إلا بعد الرجوع عن الخطأ ـ هو سقوط بعض المثقفين العرب والكتاب. والمسلمون يبتلعون هذا الطعم السام المدسوس في رسم الوصفات العلاجية التي يطرحها بين يدي هذا النفر المستشرقون والباحثون الغربيون، فيما يزعمون بأنهم يقومون بعملية تحليل علمي موضوعي ومحايد للمشاكل التي تعاني منها مجتمعاتنا ودولنا، بغباء أعمى. فنجدهم مثل الببغاوات يرددون المصطلحات الغربية مثل (الحداثة) و(الديموقراطية) و(حقوق المرأة) و(الطفل) وما إلى ذلك، دون أن ينتبهوا إلى أن هذه المصطلحات ليست عملية بمضامينها وبصورة مطلقة وشاملة، وإنما تحمل في جوفها مفاهيم محددة. وهذه المفاهيم ليست كونية. إنها مستخلصة ومستصفاة من تجارب إنسانية، بعد دراسة موضوعية لتجارب مجتمعية خاصة ومحددة. وبالبداهة نجد أن تجربة هذه المجتمعات الغربية ليس بالضرورة والحتمية أن تتماثل مع تجارب المجتمعات الأخرى، وبالتالي فإن ما يستخلص من تجارب هذه المجتمعات الغربية، لا يمكن ولا يجب ولا ينبغي أن ينطبق على المجتمعات الأخرى، ذات التجارب المختلفة، بل والمناقضة والمضادة لها في حال بعض المجتمعات. بعض المثقفين والكتاب العرب يجلسون في مقاعد الدرس أمام الأستاذ الملصق الغربي، وبنفس الطريقة التي كانوا يجلسون بها أمام معلمهم في الابتدائية بامتثال تام، يحفظون عن ظهر قلب ما يلقنهم المستشرق أو الباحث الغربي عن كل شيء حول حياتهم وذواتهم، بدءا مما يأكلون ويلبسون ويشربون وانتهاء بما يجب أن يترسخ في أعماقهم من عقيدة وفكر وذائقة جمالية، بل ويلقنهم كيف يفكرون وفيم يفكرون. وما إن يحفظ أحدهم بضع مصطلحات وجمل مختزلة ومقتطعة من سياقها العام، وشيئا من أفكار لا جذور لها أشبه بالبالونات الملونة المعلقة في الهواء، حتى يسارع إلى تسويد الصحائف وزحم الفضائيات واعتلاء المنابر ناثرا على الخلق بضاعته بثقة من أوتي الحكمة وفصل الخطاب. مثل هذا المثقف العربي هو حصان طروادة الغربي بشحمه ولحمه، وعظمه أيضا. الكارثة الحقيقية من أمثال هؤلاء هي أنهم يشكلون أمضى وأخطر أدوات الغزو الفكري والثقافي. لأنهم يغزون مجتمعاتنا من الداخل بالوكالة عن الغازي الأجنبي الذي أعياه غزونا من الخارج، أعني غزو ذواتنا والسيطرة على إرادتنا طالما نحن مستمسكون بثوابتنا، وهي عروتنا الوثقى التي لا انفصام لها. يستطيع الأجنبي الآن أن يغزو ويحتل بقوة السلاح. ولكنه سيعجز عن احتلال إرادتنا على المقاومة طالما نحن مستمسكون بهذه العروة الوثقى. وحين يعجز عن تجريدنا من مصدر قوتنا الحقيقية، يقوم هؤلاء العرب الغربيون بدس سمومه في قلوبنا وعقولنا، وغزونا من الداخل نيابة عنه حتى نتخلى عن عروتنا الوثقى فتنبهم علينا الطرق وتضل أقدامنا ونضيع.. وحينها يسهل احتلال دواخلنا التي أفرغت من ثوابتها فغدت خاوية، ونحن غثاء سيل لا يرحم يأخذنا حيث شاء. فماذا نحن فاعلون؟.