×
محافظة المنطقة الشرقية

دراسة: الحيوانات الأليفة تساعد في التعامل مع المرض العقلي

صورة الخبر

من بين كل الأعمال الاستشرافية التي ظهرت في العديد من البلدان الغربية، كما في روسيا، خلال الفترة «الرومانسية» الممتدة من القرن السابع عشر حتى بدايات القرن العشرين، يمكن القول إن «باليه الليالي المصرية» المعروف كذلك باسم «الباليه المصري»، والذي لحنه أنطون آرنسكي انطلاقاً من نص كان كتبه شاعر الروس الأكبر بوشكين قبل ذلك بعقود، هو الأكثر ارتباطاً حقاً بمصر، مع أنه يبدو اليوم ضئيل الشهرة مقارنة بغيره من أعمال كتبها غربيون عن الشرق. ولعل اللافت أكثر من أي شيء في هذا العمل، هو أن آرنسكي اشتغل عليه، ليس فقط انطلاقاً من نصّ بوشكين الذي تدور أحداثه أيام كليوباترا، بل كذلك انطلاقاً من كتاب المستشرق ويليام لين الشهير عن «عادات وأخلاق مصر الحديثة» المنشور في لندن عام 1836، فالطريف هنا هو أن الباليه استند في أجوائه وموسيقاه إلى ما رصده لين في مصر المعاصرة له، ليدمجه بالحياة كما كانت متخيلة في مصر عصر البطالمة، أي في زمن كليوباترا. لكن أحداً لم يعتبر ذلك مأخذاً على الموسيقي، باستثناء زملائه الموسيقيين الروس، الذين رأوا في العمل ابتعاداً من المثال الأعلى الروسي الذي كانوا هم يشتغلون عليه. > مهما يكن، حقق الباليه في زمنه نجاحاً كبيراً، إذ إنه نقل حقاً أجواء مصرية إلى قلب الحياة الفنية الروسية، وتحديداً من خلال حكاية كانت جديرة بأن تشكل أساس عمل أوبرالي ميلودرامي. وحتى إن كان من الصعب القول إن كليوباترا نفسها هي بطلة العمل، فالملكة المصرية بدت في ذلك العمل مجرد واحدة فقط من الشخصيات. أما الأحداث التي تروى لنا من خلال النص، فتدور ذات يوم خلال الأيام الأخيرة من عهد الملكة الإسكندرانية فيما كانت تنتظر هازمها أنطونيو كي يصحبها من على شاطئ النيل في مركبه حيث كانت تنتظره. هناك تلتقي كليوباترا بيرنيس المغرمة بآمون، كما بهذا الأخير الذي ما إن يراها حتى يصاب بسحرها، وهو إذ يشعر أنه مغرم بها وينسى على الفور حبيبته ووعده لها وموعده معها إذا به في لحظة غامضة يرمي الملكة بسهمه فيخطئها، وحين يتم القبض عليه يعترف بأنه إنما فعل ذلك لفرط غرامه، وأنه مستعد أن يدفع حياته ثمناً لقبلة من الملكة. توافق هي على ذلك شرط أن يعدم بشرب السم ما إن يطلع الصباح، فيوافق وسط حزن بيرنيس المزدوج، من ناحية لأن حبيبها يحب أخرى، والأخرى هي أخرى في الغرام ولو كانت ملكة البلاد، ثم لأن هذه ستعدمه فجر اليوم التالي. وهي إذ تتوسل إلى الملكة ألا تفعل، تخرج يائسة راقصة رقصة اليأس فيما يتعمد كهان المعبد الذين كلفوا بتحضير السم لقتل آمون، إبدال السم بمادة غير قاتلة. وهكذا، عند الفجر إذ يصل أنطونيوس ويصحب الملكة يكون آمون قد أفاق من «موته» المزيف كما من غيّه، ويلتقي الحبيبان. > لعل أجمل ما في هذا الباليه، هو الأجواء التي رسمت له يوم تقديمه للمرة الأولى، حيث مثل المسرح معبداً على ضفة النيل وسط أشجار نخيل، وفي عمق الديكور مشهد رائع للأهرامات وأبي الهول. أما من الناحية الموسيقية، فإن آرنسكي أبدع في تلحين الرقصات، ولا سيما تلك التي ترقصها بيرنيس، ثم رقصة البنت اليهودية، ورقصة الغوازي، ودائماً على موسيقى استوحاها آرنسكي من تعمقه في كتاب إدوارد لين، كما من كل تلك الأعمال الاستشراقية التي كانت معروفة، بالاستناد هنا إلى الأعمال الموسيقية النظرية للفرنسي جان– بنجامين فرانسوا، الذي كان اشتغل حقاً على الموسيقى المصرية من خلال العلوم التي توافرت خلال حملة بونابرت على مصر. > «لولا تأثير تشايكوفسكي عليه، لكان من الصعب على أحد أن يتذكر آرنسكي». هذا الحكم القاطع نجده وارداً من العديد من الكتابات التي تؤرخ لحياة وأعمال الموسيقي الروسي أنطوني آرنسكي، بحيث بات أشبه بالمسلّمات، وأدى إلى اعتباره واحداً من المؤلفين الثانويين في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية. غير أن سنوات الستين من القرن العشرين، شهدت بعد نصف قرن من رحيل الرجل، إعادة اعتبار له، ولا سيما عن طريق نقاد ومؤرخين راحوا يدرسون أعماله بهدوء ودقة ليستخلصوا من دراساتهم استنتاجات تقول إن آرنسكي كانت له أصالته التي لا يمكن نكرانها، أما تأثره بتشايكوفسكي، فإنه كان حالة عارضة في حياته، هو الذي يمكن أن نفترض بشكل أكثر دقة أنه كان مكملاً لريمسكي- كورساكوف أستاذه، أكثر منه مؤلفاً يقع تحت تأثير تشايكوفسكي. وهكذا، بعد قطيعة زمنية طويلة، عاد آرنسكي ليعتبر، إلى جانب بورودين وسكريابين وتشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف، واحداً من الذين طبعوا الموسيقى الروسية بطابعهم خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والأعوام الأولى من هذا القرن التالي له. > ولد أنطوني آرنسكي، العام 1861 في مدينة نوفغورود، وتلقى دراسته الموسيقية في كونسرفاتوار سانت بطرسبوغ «حيث كان ريمسكي- كورساكوف أستاذه الأساسي. وهو كان في الرابعة والعشرين من عمره حين عُهد إليه بقيادة كورس وأوركسترا البلاط الإمبريالي في العاصمة الروسية، وهو موقع أتاح له من المكانة والراحة ما مكّنه من أن يبدأ بوضع الألحان والقطع التي كان يحلم بأن يمكنه الوقت من وضعها، خلال السنوات الأولى من شبابه. وبالتوازي مع ذلك المنصب، عيّن آرنسكي كذلك أستاذاً للهارمونيا في كونسرفاتوار موسكو، وهناك كان من بين أنجب تلاميذه شبان سوف يصبحون لاحقاً أعمدة الحياة الموسيقية في العاصمة الروسية، ولا سيما منهم ألكسندر سكريابين، وسيرغي رخمانينوف وراينهولد غليار. > إذا كان آرنسكي قد بدأ حياته التأليفية بكتابة العديد من القطع القصيرة للبيانو، وهي تلك القطع التي سيجد الباحثون قرباً كبيراً بينها وبين أعمال تشايكوفسكي ولا سيما بعض أجمل فقرات الكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا، فإنه كان في الحادية والثلاثين من العمر، في العام 1892 حين كتب موسيقى الأوبرا التي ستحقق له شهرة محلية وعالمية «حلم على نهر الفولغا»، وهو أتبعها لاحقاً بعملين أوبراليين لن يقلا عنها شهرة،هما «رافائيل» (1894) و «نال وداميانتي» (1899). وعلى هذا النحو كان في وسع آرنسكي أن يطل على القرن العشرين باعتباره واحداً من أبرز الموسيقيين الروس. صحيح أن القدر لم يمهله كثيراً بعد ذلك، إذ إنه رحل عن عالمنا شاباً في الخامسة والأربعين من عمره في العام 1906، لكن حياته القصيرة أتاحت له مع ذلك أن يكتب، إلى الأوبرات الثلاث التي ذكرناها والتي تعتبر عماد شهرته الأساسية، وإضافة إلى قطع البيانو المبكرة، عدداً من الأعمال البارزة، ومن أهمها سيمفونيتان، ورباعيتان، وكونشرتو للبيانو، وإنترميتزو، و «ثلاثي للبيانو من مقام صغير»، وعمل للبيانو والأوركسترا بدا فيه بدوره متأثراً بتشايكوفسكي بشكل فاضح هو «فانتازيا انطلاقاً من أغنيات روسية شعبية»، و «خماسي للبيانو». > وإضافة إلى هذا كله، كتب آرنسكي موسيقى تلك الباليه البديعة التي نتناولها هنا والمقتبسة من بوشكين بعنوان «ليال مصرية»، بدا فيها هذه المرة متأثراً بأستاذه الكبير ريمسكي- كورساكوف، بحيث إن ثمة مقاطع في «ليال مصرية» تحيل مباشرة إلى قطعتي هذا الأخير الشهيرتين «شهرزاد» و «عنتر»، اللتين تعتبران من أجمل القصائد السيمفونية التي أبدعتها الموسيقى في ذلك الحين. > تميزت موسيقى آرنسكي على الدوام بطابعها الغنائي. غير أن اقترابه من تشايكوفسكي وريمسكي- كورساكوف، لم يمنع موسيقاه من ان تكون أكثر انتقائية وتجريبية، بحيث إننا نجده، في نهاية الأمر، أقل وطنية وانغماساً في الفولكلور والموسيقى المحلية من أستاذيه. وطوال سنوات عدة ظلت أعمال آرنسكي، مع هذا، غير معروفة على نطاق واسع خارج روسيا. أما العملان اللذان حققا له المقدار الأكبر من الشهرة العالمية، وأحياناً من دون أن يحفظ أحد اسم صاحبهما بالكامل، فكانا «فالس مأخوذ من المتتابعة رقم 1 لآلتي بيانو» و «تنويعات على موضوعة مستقاة من تشايكوفسكي».