قبل أسابيع احتفل قسم الاستشراق في جامعة بريشتينا بالذكرى الاربعين لتأسيسه وأصدر بهذه المناسبة مجلداً ضخماً ضمّ دراسات متنوعة للأساتذة المؤسسين والعاملين الحاليين فيه، ما يسمح بالتعرّف على تحولات الاستشراق اليوغوسلافي وواقع الاستشراق الكوسوفي حالياً. وكانت يوغوسلافيا تشكلت في 1918 من مناطق متنوعة ثقافية كان بعضها يعتبر جزءاً من الشرق العثماني حتى مطلع القرن العشرين (البوسنة وكوسوفا ومكدونيا) ، حيث كانت تملك مخزوناً من التراث الشرقي المكتوب باللغات العربية والتركية والفارسية اضافة الى اللغات المحلية المكتوبة بالحروف العربية. كانت تلك المناطق تشتهر بـ»علماء شرقيين» عرفوا اللغات الشرقية وأبدعوا فيها (علوم لغوية ودينية وفلسفة وسياسة وتاريخ وأدب الخ)، ولكن ظهر فيها «رواد الاستشراق» الذين درسوا في مراكز الاستشراق بالجامعات الاوروبية وعادوا الى موطنهم بمناهج جديدة لدراسة التراث الشرقي في بلادهم مثل صفوت باشاغيتش (1870-1934) وفهيم بايراكتاروفيتش(1889-1970). واشتهر الثاني بلقب «عميد الاستشراق اليوغوسلافي» بعد أن أسّس قسماً للاستشراق في جامعة بلغراد (1926)، الاول من نوعه في البلقان. ولكن ما أُخذ على بايراكتاروفيتش انه تأثر بروح المركزية الاوروبية في النظرة الى الشرق (الذي كانت بلاده البوســـنة جزءاً مـنه بالمعنى الحضاري)، وبالتالي أصبح هذا الشرق يمثل الآخر المختلف الذي تتم دراسته لاسباب ايديولوجية بالدرجة الاولى. ومع الانتقال من يوغوسلافيا الملكية، الى يوغوسلافيا التيتوية في 1945 انتقل مركز «الاستشراق اليوغوسلافي الجديد» الى سراييفو في 1950 مع تأسيس «معهد الاستشراق» الذي بقي الوحيد من نوعه في يوغوسلافيا وقسم الاستشراق في جامعة سراييفو. وبرز ما يمكن تسميته «مدرسة سراييفو» أو «الاستشراق البوسنوي» الذي ألغى المسافة المتخيّلة بين الذات والآخر باعتباره ان تراث المسلمين في البوسنة باللغات الشرقية هو جزء من التاريخ القومي للبوسنة، ولذلك يجب جمع مخطوطاته ودراستها ونشرها باعتبارها جزءاًً من ثقافة البوسنة وليس جزءاً من ثقافة الآخر. وفي هذا السياق جرى في 1973 افتتاح قسم ثالث للاستشراق في جامعة بريشتينا، أي بعد ثلاث سنوات فقط من تأسيس الجامعة الكوسوفية الاولى. وبالمقارنة مع القسم الاول (بلغراد) والقسم الثاني (سراييفو) جاء القسم الثالث ليعبّر عن خلطة يوغوسلافية إذ ساهم بتأسيسه واستمراره لفيف من الالبان والاتراك والصرب والبشناق (حسن كلشي وصباحات محمود وراده بوجوفيتش وأسعد دوراكوفيتش وحارث سيلاجيتش و فتحي مهدي واسماعيل أحمدي وغيرهم) وجمع بين التدريس بالالبانية والصربوكرواتية، ولذلك كان يستقطب الطلاب من كوسوفا والبوسنة وصربيا. مع انهيار يوغوسلافيا في 1990-1991 واستقلال البوسنة في 1992 ثم حرب كوسوفا في 1999 انحسر الطابع اليوغوسلافي عن هذا القسم بعد أن أصبح طلبته حصراً من ألبان كوسوفا ومكدونيا وألبانيا وأصبح بذلك يمثل «الاستشراق الالباني» بخصوصيته. وعلى نمط ما حدث في البوسنة لم يعد العاملون في قسم الاستشراق في بريشتينا يتعاملون مع التراث الشرقي عند الالبان باعتباره يمثل «الآخر» بل بكونه جزءاً من الثقافة الالبانية التي عبّرت عن نفسها بلغات عديدة بحسب الظروف السياسية التي كانت تحكم الالبان. ولذلك اشتغل العاملون في هذا القسم أيضاً على جمع التراث الالباني المكتوب بالعربية والتركية والفارسية أو المكتوب بالالبانية بالحروف العربية إضافة الى أبحاثهم في اللغة العربية وأدابها وترجماتهم من الادب العربي. بالمقارنة مع بلغراد وسراييفو عانت بريشتينا من العزلة أكثر وهو ما أثر بدوره على قسم الاستشراق. فقد فتحت المشيخة الاسلامية في 1991 «كلية الدراسات الاسلامية» التي أصبحت تنافس القسم في استقطاب الطلاب، كما أن فرص العمل أمام المتخرجين من القسم أصبحت محدودة جداً بسبب محدودية علاقات كوسوفو مع العالم العربي. وهكذا لوحظ انه في الاحتفال بالذكرى الـ 40 لتأسيس القسم لم تحضر سوى السفيرة التركية لانه لا توجد سفارة عربية واحدة في بريشتينا! ومن ناحية أخرى فقد تسببت ظروف كوسوفو الصعبة في قلة خروج العاملين في هذا القسم للمشاركة في الندوات والمؤتمرات الدولية للتعريف بما لديهم، وباستثناء فتحى مهدي (1944) الذي شارك في عدة ندوات ومؤتمرات في تركيا وايران ومصر والاردن وغيرها فإن الأمل معقود على رئيس القسم عيسى ميميشي (1953) أستاذ اللغة العربية الذي تخرج في القسم نفسه وشارك في عدة ندوات بالاردن والامارات ولبنان وزملائه الذين تخرجوا أيضاً من القسم نفسه (مهدي بوليسي وعبدالله حميدي الخ). وربما يفيد الكتاب الصادر بهذه المناسبة في التعرف على الاهتمامات العلمية للمشاركين فيه الذي لا يضمّ جميع العاملين لأن بعضهم توفي وبعضهم انقطع عن القسم لسبب أو لآخر. فإصدار الكتاب أعاد الاعتبار الى مؤسسه حسن كلشي (1922-1976) الذي يكرّس باعتباره «عميد الاستشراق الالباني» مع أنه لم يحظ بما يستحقه حين كان على قيد الحياة بسبب الظروف السياسية والعلاقات الشخصية بينه وبين النخبة الاكاديمية الكوسوفية آنذاك. يبدأ الكتاب بدراسة سابقة للمرحوم كلشي «القرآن أعظم أثر في الادب العربي» ثم دراسة فتحي مهدي «الاناضول والروملي: كاتبان وموضوع واحد – رشاد غونتكين وستريو سباسه» ، ودراسة اسماعيل أحمدي «جرجي زيدان مبدع بارز للرواية التاريخية»، ودراسة مهدي بوليسي «قاموس الاعلام لسامي فراشري كنز معرفي»، ودراسة عبدالله حميدي «نظرة على الادب التركي من بداياته الى اورخان باموك»، ودراسة عيسى ميميشي «المفردات ذات الاصول غير العربية في القرآن بحسب السيوطي» ، ودراسة يحيى هندوزي «ابن خلدون وأعظم أعماله: المقدمة»، ودراسة الياس رجا «كوسوفا قبل وخلال المرحلة العثمانية المبكرة في القرنين 15-16»، ودراسة شمسي عيواظي «مفاهيم الخبرة التاريخية للامبراطورية العربية»، ودراسة محمد موفاكو «محمد علي باشا في التراث الشعبي الالباني: كتاب «النحلة الالبانية» نموذجاً»، ودراسة أسعد دوراكوفيتش «الاستشراق – مشاكل منهجية التسمية»، ودراسة رشدي لاتا «اسهام علماء المسلمين في ديبرا في سبيل القضية الالبانية»، ودراسة عرفان مروينا «المفردات التركية من المجال العسكري في الملاحم الالبانية»، ودراسة سوزانا جانهاس «من مؤثرات اللغة الالبانية في اللغة التركية الدارجة في كوسوفا» ودراسة زكية جافشه «آراء سامي فراشري حول استخدام حالة الرفع في اللغة التركية». ولا شك ان بعض هذه الدراسات جدير بالترجمة الى العربية ويمكن إضافة دراسات أخرى لكي يكون هذا الاصدار خير مرجع للتعرف على «الاستشراق الالباني» بخصوصيته. الإستشراق الكوسوفي