×
محافظة المنطقة الشرقية

مستشفى التأهيل الطبي بالمدينة المنورة

صورة الخبر

يزعم منظرو "الإسلام السياسي" أن دورهم حان ليحكموا بعد فشل تجارب القوميين واليساريين والمحافظين التقليديين، لكن بتأمل تاريخ المنطقة المعاصر سنكتشف ببساطة أن هذه مغالطة شائعة، فهذه الحركات التي خرجت من عباءة (أم الجماعات) وأقصد "التنظيم الدولي للإخوان المسلمين" كانت شريكة الأنظمة الشمولية كافة، بل ومنحتها مشروعية الوجود من صدام حسين للقذافي، مرورًا بالأنظمة التي تعاقبت على حكم مصر، وصولاً للأسد الأب والابن بالشام وغيرهم. جميع هذه الأنظمة استهلت حكمها بشهر عسل يطول ويقصر حسب ظروف كل دولة، ثم ما لبثت أن استخدمتها كفزاعة للداخل والخارج، لتدخل مرحلة (الاحتواء المزدوج) لكن لحظة المواجهة كانت حتمية، وكان الأمر يتراوح بين تنكيل الأنظمة وسحقهم، بعدما نجح هذا الفصيل باستقطاب شرائح ذات تنويعات شتى، لكنها تتكئ على مرجعية أساسية: "القطبية الجديدة" التي تتبنى مفاهيم "الحاكمية" و"جاهلية المجتمع" وغيرها من الأدبيات القطبية، نسبة لمُنظر الإخوان سيد قطب الأب الروحي للتكفيريين. كانت ثورة الخميني بإيران مصدر إلهام لحركات الإسلام السياسي رغم الخلافات العقدية العميقة لكن برجماتية هذه التنظيمات دفعتها لتأسيس ما يُمكن وصفه "ولاية فقيه سُنّية" فالمرشد العام للإخوان، هو المعادل الموضوعي للمرشد الأعلى، وبالتالي لم يكن غريبًا احتضان إيران لهؤلاء رغم الخلافات المذهبية، فهناك قاسم يجمع بينهما، وهو أيديولوجية تُحرض على الموت والعودة للماضي استنادًا لمفاهيم تتماهى مع الأفكار القطبية. لكن المجتمع الإيراني، خاصة جيل الشباب، اختار طريق النضال كمعارضة إصلاحية لمواجهة القمع الذي يمارسه نظام ينخر السوس عظم أيديولوجيته الكهنوتية، فأصبح لسان حال المعارضة يقول دون مواربة: لن نقبل أن يقرر لنا كهنة الحكم حياتنا ولن نسعى للموت لما يريدونه، لهذا فإن ما يجري في إيران حالياً إرهاصات نهاية الأيديولوجيا الدينية هي التي صنعتها، بالنظر للهوس النووي، والرغبة بتحقيق "حلم قومي" يسعى للعبث بالمنطقة، ويناور المجتمع الدولي، ويُبرم اتفاقيات مع واشنطن تحت الطاولة وفوقها، لأن "سدنة النظام" استشعروا أن نظامهم يواجه نهاية أيديولوجيته التي صنعت طيلة عقود حصانة تحميه داخلياً وخارجياً، لكنها شأن كافة "الأيديولوجيات الكهنوتية" ربما تلجأ لإحراق سفنها، بمنطق الأيديولوجيا التي تُعيد للأذهان نهاية روما التي كانت مزدهرة في عهد نيرون. ومن إيران لمصر التي تخوض مواجهات شرسة ضد تنظيمات الإسلام السياسي بعد الضربة الموجعة التي تلقتها "أم الجماعات" وفشل تجربتهم السياسية، وهذا من شأنه أن يجمع خليطاً من أكثر العناصر تطرفاً تتمترس خلف "ترسانة فقهية" بالغة التطرف، تمتزج بمشاعر الاضطهاد من رموز المسار السياسي الذي يتشكل، وظهيره الشعبي والسياسي والإعلامي، الذين تعدهم التوليفة الجهادية الجديدة "كفاراً محاربين"، بينما يرون أنفسهم "الطائفة المؤمنة الربانية" التي تعتقد أنها مكلفة بقتالهم، لكن حسمها ميدانياً بالداخل، وحصارها إقليمياً وتجفيف منابع تمويلها وضعها في زاوية "الأفول الحتمي" خلال المدى المنظور. ورغم الخلافات الجذرية بين الأيديولوجيات الدينية واليسارية، فقد جمعت أنصارهما أهداف مشتركة، لهذا يرى بعض منظريها أن انهيار الاتحاد السوفيتي، وما كان يعرف بالكتلة الاشتراكية لا يعني نهاية الأيديولوجيا، وبنفس المنطق الديماجوجي الذي تسوقه الأيديولوجيات الدينية بزعمها أن فشل تجارب بائسة كإيران والسودان لا يعني انهيار "وهم الإسلام السياسي" فالمشكلة ليست في النظرية بل التطبيق، وهذا المنطق ذاته الذي يتبناه منظرو اليسار بأن انهيار الاشتراكية في التسعينيات لا يعني نهاية المنظومة الأيديولوجية، بل التطبيق الفاسد لها، وليست الأيديولوجية. الأمر الذي يتجاهله أنصار الأيديولوجيات المختلفة هو التحول الجذري بطبيعة الواقع الدولي الجديد الذي أفرز مواطناً لا يكترث بالأيديولوجيات، بقدر تحقيق أحلامه بحياة كريمة وشراكة حقيقية بإدارة المجتمع، ويصبح مطمئناً حيال مستقبله، ضمن منظومة حكم تكفل له الحريات العامة والشخصية، وتصون كرامته، وتحول دون اضطهاده لأي سبب ما دام مُلتزماً بالقانون، الذي ينبغي أن يكون الفيصل بين المواطنين أنفسهم، أو مع السلطة الحاكمة التي يُشارك باختيارها بل ويحاسبها أيضاً. لكن بتحليل مضمون هذه المطالب، سنكتشف أنها إرهاصات لأيديولوجيا جديدة كخلايا الجسد التي تُعيد بناء ذاتها محتفظة بأشكال مبتكرة من الحضور والتأثير ضمن شبكة العلاقات الدولية، فحينما تفككت "المنظومات العتيقة" تتشكل أخرى وإن تغيرت أطراف الصراع، فالمبالغة في تعظيم وظيفة الأيديولوجيا، سواء حدث ذلك عبر نسق محافظ أو إصلاحي أو ثوري كالمغالاة في تهميشها، فالإيديولوجية ما زالت حاضرة تؤدي وظيفتها السياسية، لهذا يقتضي الأمر اجتهاداً لبناء "حائط صد" فكري يستلهم موروثنا الحضاري، ويكفل تحقيق الأمن القومي، وتعظيم الشعور الوطني، حتى لا نصحو يومًا لنجد بلادنا ساحة لشتى الصراعات، يُشهر بعضنا السلاح في وجوه البعض، لتحقيق "المُخطط الخبيث" الذي وضع المنطقة في "حرب وجودية" نكون فيها أمة تملك قرارها، أو نتناحر وننقرض.