محمدو لحبيب ما كل هذه السعادة التي تنطلق من وجهك؟، هل هي تعبير إنساني بسيط عن استمتاعك بحريتك في تشكيل عالمك المفرد؟، أم هي رد فعل على كسرك لهيمنة الذين يحتكرون وسائل الإعلام في كل العالم؟. أفهم الآن أن توقيع رواية من قبل كاتبك المفضل، هو حدثك المفضل، إنه عام بثك الفيسبوكي المباشر الأول، وللتقنية وللإعلام سحرهما كما لهما مثالبهما التي عرفها هربرت ماركيوز، ريجيس دوبري، يورغن هابرماس وجان بودريار على اختلاف زوايا النظر. فهل رضي عنك جان بودريار؟، هل يخرجك ذلك الفيلسوف والمصور الفوتوغرافي الباريسي من جحيم نظرته لموت الواقع، و لما ما بعد موت الواقع؟. ربما من حسن حظك أن ذلك الأمر قد يكون ممكناً على جغرافيا زمنية على الأقل، إن كان للزمن حقاً جغرافيته؟، فالرجل توفي 2007، أي قبل أن يتألق نجم مارك زوكربيرج وموقعه الفيس بوك، وقبل أن يتيح تلك الفضاءات التي فتحها لأمثالك ممن يمتلكون حلماً يختزل في أن يصنعوا ويتحكموا بإعلامهم الخاص. كان ذلك جزءاً من تعليق لصديق على حالة صديقه الافتراضي، في يوم ميلاد بثه المباشر الأول على موقع الفيس بوك. إنه حدث مثير فلم يعد الأمر يحتاج من أي شخص لكي يصنع عالمه وإعلامه، سوى ضغطة زر، حتى لو كان جواله من الفئة الصينية رخيصة السعر. لقد أصبح الإمساك بلحظتك التي تريد، وتسجيلها وتصويرها بسيطاً جداً، وانتفت التعقيدات الكثيرة لعملية البث السمعي البصري، ولن يضطر جمهور الفيس بوك إلى حجز قمر صناعي للبث المباشر، أو امتلاك هوائي عملاق للإرسال، فقط يكفي حساب على عالم مارك الفيسبوكي، وإرادة من أي شخص، و إنترنت عادي، لتتكامل تجربة تؤشر إلى حدوث تغيير ثقافي وإنساني كبير جداً، وربما خطر جداً. إن السؤال الأبرز هنا والذي تدور في إطاره هذه المعالجة هو: هل سيحرر البث المباشر عبر الفيس بوك، الإنسان من ربقة ما يصفه الفيلسوف الفرنسي جان بودريار بذلك الجلاد الذي لا يُرى، والذي يقف وراء الصور والمعلومات التي تبثها الفضائيات ومواقع الإنترنت، ذلك الجلاد الذي يتلبس رداء الحقيقة، والحرص على تفعيل منظومة حرية الرأي والتعبير، في حين أنه لا يقدم إلا رؤيته الذاتية للحظة الحدث؟. لقد اعتبر بودريار (1929-2007 )، وهو أحد أشهر نقاد هيمنة وسائل الإعلام، وتغول السياسي من خلالها في عصرنا الحاضر، في تحليله لمعضلة استلاب الإنسان تحت تأثير الإعلامي والسياسي، إننا نعيش زمن سيطرة القطب الواحد وديكتاتوريته التي يؤمنها عبر الهيمنة الإعلامية، وأن العالم يعيش لحظة انقلابية، تنقلنا من عصر الواقع إلى عصر موت الواقع بسبب موت أو نهاية أو تحلل المبدأ المؤسس للواقع، مبدأ الصراع والمواجهة الجدلية والتناقض والنفي والقطيعة والمجاوزة والثورة والتقدم، ولذلك كان يعتبر أن السؤال الإشكالي للإعلام الرقمي بشكل عام هو سؤال الإيديولوجيا، ذلك أن الإعلام عنده هو منتج الإيديولوجيا في عصر الثورة المعلوماتية والرقمية، ويتحكم بالإعلام من يتحكم بإنتاج الآلة الذكية الرقمية. ماذا لو عاش ذلك الكهل الفرنسي حتى اليوم؟، أعتقد أنه من الأجدى أن نخرج من سياق لو تلك إلى أن نعرف على ضوء تلك المبادئ العامة، من فلسفة ذلك الرجل الذي يوصف بأنه الوريث الشرعي لجان بول سارتر وميشيل فوكو، إلى أي حد سيسهم البث المباشر عبر الفيسبوك ومواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، في كسر احتكار المعنى، وإنهاء احتكار الرسالة الدلالية، وتجسيد نموذج تحرر الشخص من سيطرة الأفكار والقوالب الجاهزة التي تفرضها عليه وسائل الإعلام؟ ثم إلى أي حد يمكن أن يتطور ذلك البث المباشر؟، وهل يغدو سلاحاً خطراً لصانعي ثقافات القتل المجاني وممتهني الابتذال تحت يافطات التعبير عن الذات الحرة؟، أم أنه يمكن أن ينتج ثقافة جماهيرية مختلفة، ويغدو داعماً حقيقياً لنشر رسالة العلم والتعلم بطريقة تفاعلية غير مكلفة تستطيع من خلالها بلدان فقيرة جداً أن تنشر التمدرس و الأفكار الصحيحة؟ لقد أسهم البث المباشر في الفيس بوك منذ إضافته كتقنية تفاعلية اتصالية من قبل السيد مارك زوكربيرج، في تحرير ملايين المستخدمين الأفراد حول العالم، إنه شيء مدهش حقاً بالنظر إلى المدى الزمني القصير لظهوره. إن مشاهدة ما أحدثه فيديو بث مباشر عبر الفيس بوك من القدس القديمة مؤخرا، رداً على قرار الكيان الصهيوني منع الأذان، يجعل المرء يدرك أننا أمام إعلام قادر بسهولة، على تجاوز منطق القوة في لحظات وبأقل التكاليف. لقد خلق ذلك الفيديو المباشر فوراً حالة رأي عام حقيقي، جعلت كل جبروت وعنت المحتل يتلاشى، ويصبح تأثير قراره العنصري ذاك كأن لم يكن، لقد تحررت النفس من سطوة قوة القرار الجائر، وباتت المقاومة فعلاً جماعياً سريع التشكل والتجدد، إنه الإبهار الإنساني بعينه. والشيء الآخر المبهر أن هذا البث يسير باتجاه أن ينقذ البشرية من أزمة الفردانية القصوى التي خلقها مجتمع السوق الليبرالي المتوحش، وحل المعضلات التي كانت مطروحة لعلم الاجتماع السياسي في العصر الراهن. فقد سمح ذلك البث رغم بساطته للاجتماعي أن يتطور حتى ولو تقلصت مؤسساته على الأرض، فهو هنا يخلق بسرعة نموذجاً حياً من التفاعل ومتزامناً مع الصورة التي تنقل حدثاً فردياً ما، ويعطي الفرصة لأي شخص أن ينتقي جمهوره، وأن يعدل في مادته المعروضة مباشرة، وفق رغباته التواصلية مع الآخرين، وهو ما يعني بأن الكائن الفردي لن يسير وحيداً بعد الآن، وأنه بطريقة مختلفة عن السائد والذي كان مألوفاً، بات يصنع مجتمعه الخاص به. كل ذلك جميل ومشرق ويعطي لهذه الميزة التقنية حجم الدعاية التي تستحقها، لكن هل يخلو كل ذلك من منغصات قد تغتال المنجز الذي أضافه الفتى الأمريكي مارك لخدمة ملايين المستخدمين لموقعه، ومن جهة أخرى لخدمة حرية الفكرة وحرية الإنسان صاحب تلك الفكرة؟. المعضلة التي تطل برأسها الآن، ووفق أحداث وشواهد عديدة، هي أن المؤسسات الإعلامية والشخصيات والجماعات السياسية، ومن بينها تلك المتطرفة - بدأت في استغلال ميزة البث المباشر عبر الفيس بوك، لتعيد إنتاج وتحديث نفسها عبر فضاء جديد، وتعيد هواجس الكهل الفرنسي الراحل بودريار فيما يتعلق بهيمنة السياسي والإعلامي إلى الوجود كأنها طائر الفينيق. الشيء الذي كان بمثابة ذرات عسل اجتذبت كل تلك الأطراف الإعلامية والسياسية، هو أن موقع الفيس بوك يتوفر على عدد من المستخدمين يتجاوز مليار ونصف مشترك عبر العالم. وهذا الجمهور العريض بالضبط هو ما أغرى أحد الإرهابيين باستخدام خدمة البث المباشر فيس بوك لايف بعد إطلاقها بفترة وجيزة، لينقل جريمة قتله لشرطي فرنسي ورفيقته مباشرة. أليست هناك ضوابط لهذه الخدمة الاتصالية المباشرة، تمنع هواة لعق الدماء من الاستمتاع بعرض جرائمهم مباشرة على كل العالم؟ لا يبدو حتى الآن أن شركة فيس بوك وغيرها من المواقع التي توفر خدمة البث المباشر، قد نجحت في إيجاد وتطبيق تكنولوجيا تحدد نيات من يستطيعون استخدام البث المباشر، وتمنع بث الأفكار والمشاهد العنيفة والمتطرفة عبره. إن أقصى ما وصل إليه الفيس بوك بعد تلك الجريمة الإرهابية من تدابير احتياطية مصاحبة لخدمة بثه المباشر، هو أن يتعهد بتطوير آليات مراقبة البث ليلغي فوراً أي فيديو ينشر دعاية إرهابية أو متطرفة، فقط بعد نشر البث المباشر. وغير بعيد من معضلة استخدام ميزة البث المباشر الفيسبوكي من طرف الجماعات الإرهابية وما يشكله من خرق للواقع الشخصي الحر لملايين المستخدمين، تبرز معضلة أخرى تنتمي لنفس الخرج حتى وإن كانت مختلفة المضمون والمحتوى. ففي الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والتي حسمت نتائجها مؤخراً، كشفت تقارير متخصصة عديدة أنه تم استغلال وسائل التواصل الاجتماعي عموماً، والفيس بوك لايف خصوصاً في نقل أفكار متطرفة وعنصرية وتنتمي بامتياز لما يعرف بالداروينية الاجتماعية. في الواقع تبدو تلك المؤسسات والشخصيات والجماعات السياسية، مصرة على ألا تترك الإنسان يعانق حريته بعيداً عنها، إنها تلاحقه حتى ولو بات يستطيع أن يصنع رأيه في أمهات القضايا، ويستطيع التعبير عن اهتماماته بشكل يتوازى معها في استخدام تقنية البث المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم ذلك يمكننا القول إن الإنسانية بإمكانها أن تصبح أفضل عكس ما روجه جان بودريار في نظرياته عن الهيمنة، فكل خطوة يخطوها الفرد وهو يمتلك ولو جزءاً من أدوات تحرره، تعني أن طريق الوصول للمعنى الإنساني الراشد سالك و متاح. إن الثقافة الجديدة التي تبشر بها خدمة الفيس بوك لايف وغيرها من خدمات الإعلام الجديد، هي تلك التي تزرع الإحساس بالقدرة على الحرية لدى الإنسان،.. نعم أستطيع، هكذا يمكن لأي فقير، أومواطن كان موجوداً في شوارع الحياة الخلفية أن يقول ويعبر عن رأيه.