النسخة: الورقية - دولي للمرة الثانية يفاوض النظام على أسرى ومخطوفين ليسوا من قاعدته الاجتماعية والطائفية مقابل إطلاقه أعداداً ليست بالقليلة من المدنيين والناشطين المعتقلين لديه أو المختطفين من جانبه. في المرة الأولى أفرج عن عدد مهم مقابل إطلاق سراح قافلة من الإيرانيين الشيعة تواردت أنباء مؤكدة حول انتمائهم إلى الحرس الثوري كما ظهر من هويات البعض منهم ودخولهم لمهمات عسكرية أو استشارية بما دحض رواية النظام الهزيلة حول اعتبارهم حجاجاً يقصدون العتبات الشيعية المقدسة في دمشق، ليظهر كمن لا طاقة له على إحراج حليفه الإقليمي الأهم أمام جمهور بلاد فارس الغاضب ولا مصلحة له في تدفيعه مبكراً ثمناً باهظاً شعبياً بسبب عملية الاختطاف، فكان أن دفع عنه صاغراً فاتورة إخراجهم وحصل بذلك على خدمة لاحقة ومسبقة الدفع بآن. نظام الخدمات هذا لم يقصر مجدداً في ممارسة مهنته لمصلحة المركز الفاتيكاني هذه المرة، من خلال عملية تحرير راهبات معلولا المحتجزات لدى جبهة النصرة، بعدما تيقن ربما من خلال الجنيفين ومعاينة الرأي العام المسيحي الغربي عن قرب أنه أصبح في موقع وتوقيت جداً مناسب ليحصد بضربة واحدة مكاسب إعلامية في بروباغندا الأقليات والتطرف والتنوع الديني. وهذه رافعة ليست متهافتة في «الكباش» المرتقب على أحقية البقاء كشريك انتقالي رئيس وقائد، ربما، للمرحلة المقبلة. ليس مستبعداً أن النظام السوري أراد إخراج التبادل الأخير كقيمة مضافة اليه أيضاً في الوجدان المسيحي بسبب الزاوية الحرجة التي رأى نفسه فيها في الحملة الشرسة على يبرود، يبرود المنحوتة من حجارة القلمون وفي التاريخ المسيحي الراسخ على تلك الجبال... وليس تهجير المسيحيين من هناك وهروبهم في أصقاع الأرض والجوار إلا تقصيراً للمسافة بينه وبين تابو «إفراغ الشرق من مسيحييه»، وهو التابو الذي لن يسعد أي طرف في التورط فيه على الأقل إعلامياً. أيضاً لم يكن الوسيط اللبناني والحليف، ممثلاً بعباس إبراهيم، بعيداً عن الزهو بدوره هذا كهدية ربما أيضاً للعالم وعربون شكر في الصباح التالي لاستيلاء «حزب الله» دستورياً على الحكومة المشكّلة حديثاً تحت ضغط تفاهم إقليمي سعودي–إيراني ليقدم الحزب نفسه لاعباً يمكن إن يساهم في التنفيس الإقليمي بمقدار إسهامه في التصعيد والمواجهة. يدفع النظام من رصيده الغني في أقبية المعتقلات والسجون لمصلحة الأغراب والخارج كما اعتاد دوماً، وهو ليس بوارد أن يدفع لمصلحة قاعدته الاجتماعية وخزانه البشري النازف مهما حصل. عشرات النساء اللواتي خطفن في أحداث ريف اللاذقية الشمالي والقرى العلوية في منطقة صلنفة إبّان هجوم كتائب المعارضة والفصائل الإسلامية عليها صباح 21-8-2013 كان من الممكن أن يكنّ جزءاً من عملية التبادل هذه أو من أخرى منفصلة أسهل بالتأكيد، هذا على الأقل ما يقوله الأهالي هناك. هذه الحقيقة المؤلمة والجارحة للكرامة الجمعية في التعاطي مع حادثة الإفراج عن الراهبات والذي يمكن تتبعه بوضوح على عديد صفحات «الفايسبوك» الخاصة بسبايا صلنفة ونساء الساحل المختطفات. وما كتب عن حجم الألم والشعور بالخذلان والتخلي وصولاً إلى الغدر بهم من جانب سلطة يتأكدون يوماً بعد آخر ولو على مضض بقيمتهم الهامشية كبشر في حساباتها، ذاك الغضب يتم تخريجه من مطبّه الأخلاقي بالإشارة إلى تصريحات الراهبات لوسائل الإعلام حول حسن التعاطي معهن والحرص على سلامتهن، وشكر إحداهن بالاسم لبعض قادة «النصرة» المحليين في المنطقة (لأبي عزام وزوجته ولأبي مالك) والذين على ما يظهر تركوا أثراً طيباً لديهنّ. على رغم هذه المحنة، وحتى في هذه التخريجة، يظهر أولئك الموالون كغرباء عن قيم الإنصاف والعرفان وقول الحق ولو على نفسك، كما عن معانٍ إيمانية عميقة. وأيضاً مثل مئات الضباط والعساكر المحتجزين كأسرى للتبادل كان ممكناً اجتراح تبادلات ميسرة لهم قبل أن تتم تصفيتهم أو يقتلوا بمواجهات الفصائل المعارضة في ما بينها وتوظف صورهم إعلامياً في مكان آخر في ما بعد. لا يمكن فهم هذا الاسترخاص من جانب السلطة في التعاطي مع حاضنتها الاجتماعية الأساس إلا بالعودة إلى البنية النفسية المستلبة لغالبية العلويين كجماعة بشرية تجاه النظام، والمنطق التبريري الذي يغطي جواز قتل كل هذا العدد من السوريين تحت حجج وطنية وتكاذبات علمانية مسفة، يغطي في الآن ذاته كل هذه المهانة الذاتية أحياناً كقرابين لا بد منها لمصلحة الجماعة ووجودها التاريخي. إنها حالة استعصاء وشلل ليس على مستوى الفاعلية الوطنية وأخلاقها فحسب، ولكن على مستوى حماية الذات ورفع منسوب احترامها لنفسها وصيانة كرامتها. وما من شيء أدل على ذلك من مقدار الألم الذي يعتصر شرائح عريضة منهم بعد كل هذه الخسارات والتقدمات عندما يقفون وجهاً لوجه مع المماطلة في التعويض الضئيل لهم كذوي شهداء لم توثّق شهادتهم بعد (بعض حالات فقدان الجثمان أو التشكيك بالوفاة)، وحالات متعددة من قبيل تسويف وتأخير تأمين وظائف لزوجة شهيد أو إبنه البكر لإعالة العائلة، أو في التشبيح أو الابتزاز الذي يمارس عليهم كغيرهم في بلد اعتقدوا واهمين أن أبناءهم الراحلين هم أكرم من ضحّى لأجله وأنبل من دافع عنه. سيكون من اليسير الاعتقاد بأن النظام سيقدم بلا شك على إجراء أو جملة إجراءات لامتصاص النقمة الشعبية المتنامية عليه في مناطق الساحل الشمالي في خصوص هذا الملف ومتعلقاته، منها ما سيكون إعلامياً ومنها ما لن يعرفه سوى أهل المنطقة، ولكن ما ليس باليسير اعتقاده هو: هل تدرك المعارضة السورية، وخصوصاً صقورها الإعلاميين، أن تحولات عميقة تتفاعل في مكان ما هناك، يمكن ملاقاتها والتقرب منها بلا جلبة، وبعيداً من روح التشفي الرخيصة أو التشهير الإعلامي الفارغ. * كاتب سوري.