أسباب كثيرة وراء شهرة هذه المدينة. وقلة أولئك الذين يعرفون أن الأندرين مدينة داثرة تقع على تخوم البادية الشامية، شمال شرقي حماة. مدينة بيزنطية ضربها زلزال كبير خرّب المدينة وأضجع أعمدتها وقصورها وكنائسها، هي المدينة التي كانت تضم سبع كنائس. لكنّ قصوراً وأبنية فخمة ما زالت موجودة، وفي السنوات العشر الأخيرة عثرت بعثة تنقيب ألمانية على آثار مهمة، ما دفع رئيسة البعثة إلى أخذ «مسدس» حربي كان بحوزة الحارس، وأطلقت عيارات نارية في الهواء فَرَحاً بإنجازها. وهذه العادة أخذتها من البدو الذين عاشرتهم سنوات ورأتهم يعلنون عن فرحهم عبر إطلاق النار. أسباب عدة وراء شهرة مدينة الأندرين، وأولها خرابها. جرّب وأغضب بدوياً يقطن قريباً من «الأندرين» سيكتفي بأن يقول لك: «يبلاك بخراب الأندرين». تشتهر هذه المدينة أيضاً بآفاقها العارية التي يحبو عليها السراب، وحدها النوق والخيول وكائنات الصحراء مثل الظباء والذئاب والثعالب لا يغشها ماء السراب الكاذب ولا تنخدع بالواحات المختلَقة بلحظة ذكاء سرابية. كأن السراب خُلِق لنا، نحن البشر، من أجل مزيد من الامتحانات في شأن قدراتنا على كشف الخداع وانتشال الحقيقة من قلب الكذب. لهذا عندما كان الخيّال يحث فرسه على الإسراع صوب ماء يلوح في الأفق، كانت فرسه تحافظ على هدوء أعصابها وتوازنها على رغم العطش، فلا تلقي بالاً لماء مصنوع من غبار السراب! عمرو بن كلثوم خلّدها في مطلع معلقته التي يصف فيها مقتل الملك اللخمي، ملك الحيرة والعرب عمرو بن هند. هكذا نحن العرب: الأخذ بالثأر يُلهمنا أكثر من أي شيء. إنها لذة الانتقام المريرة. عمرو بن هند، ولد ونشأ في أرض قومه التغلبيين، وكانوا يسكنون الجزيرة الفراتية وما حولها، وتخضع قبيلته لنفوذ ملوك الحيرة مع استقلالهم التام في شؤونهم الخاصة والعامة، والحيرة هي إمارة عربية أقامها الفرس على حدود الجزيرة العربية وحموها بالسلاح والجنود. على أيّ فرسٍ لحقتَ بأهلك يا عمرو بن كلثوم؟ وأي درب سلكتها حتى تجاوزتَ دروب خرائب الأندرين؟ المدينة التي باتت تنضح دمَاً. الحواجز القاتلة باتت الآن تتربص بكل من يسلك درباً من مدينة حماة متجهاً صوب الأندرين وللحاذق أن يحزر هوية الرجال الملثمين على الحاجز، إنه الموت وحده هناك. ثمة بدوي حانق صرخ ذات يوم: «يبلاكم بخراب الأندرين» سيأتي يوم ويدرج مثلاً شعبياً جديداً «يبلاكم بخراب سورية». ذات مرة دلنــي أحد أبناء عشيرتي على مكــــان بين خرائب الأندرين قائلاً: «هناك، كانــت منازل العشيرة. وهناك وصـــلت فــرس شاب من أبناء العشيرة قُتِل في مواجهة قبلية. الخيول وحدها تصـــل وتستــدل على دربها من دون خرائط، تشمّ الجهات، وتقتفي أثر الذاكرة وتصل. وصــلت الفرس تحمل على ظهرها فارسها القتيل وحمحمت حزناً أمام منزل ذويه». البدو يعرفون أنّ للخيل ذاكرة. كلما مرت في بقعة شهدت معركة تضطرب وتجفل، وبارتباك تقطع تلك البقعة. دائما تأتي لحظة يكون فيها الفارس ممتناً لفرسه فهي ستقوده إلى دياره في أصعب الظروف، كالحرب مثلاً، حين يتربص القدر ويضرب ضربة مميتة. لطالما عادت الخيول عارية، مضرجة بدماء صاحبها، لتكون رسالة ألم لأهله، أو قد تعود به وفيه رمق حياة وتمنحه بذلك فرصة جديدة. وفي مرات كثيرة عادت تحمله للمرة الأخيرة قتيلاً مسجى للدفن. وذاكرة الصحاري تحفظ الكثير من تلك الحكايا التي تمس شغاف القلب. من الآن فصاعداً ستعج ذاكرة البادية السورية بحروب لا يحظى بها المفجوعون بقتلاهم. وحتى جثث الموتى صارت حلماً لذويهم، ويُفاوض عليها ويُدفع ثمنها... على أهل القتيل أن يدفعوا ثمن جثته. فتجارةالموت لا تأفل، أما الخيول التي تحمل قتلى الحرب إلى الديار فانقرضت. الأندرين