من المعروف أن لمشكلة الإسكان جانباً اقتصادياً كبيراً. والجانب الاقتصادي هو الدافع إلى انشاء مؤسسات وهيئات متخصصة لحل هذه المشكلة. وفي المملكة، اهتمت الدولة في المشكلة بإنشاء وزارة للإسكان. لكن كيف تحولت الوزارة من مؤسسة تنموية عليا إلى مقاول كبير يعمل بالباطن؟ بمعنى آخر، كيف تعالج المشكلة التنموية التي لها وجه إسكاني بأدوات انشائية بحتة؟ الذي حدث أن وزارة الإسكان عندما انشئت اتبعت منهج التحليل لمقاربة المشكلة، وهو منهج تفكيكي يعالج المشكلة بمعزل عن المشكلات الأخرى المحيطة لها. والنتيجة المؤدية لاتباع المنهج التحليلي أن اسرعت وزارة الإسكان بمعالجة المشكلة الظاهرة على السطح وهي عدم قدرة الفرد/ العائلة على تملك سكن. والأسباب الظاهرة لعدم تملك الفرد/ العائلة لسكن هي عدم توفر القدرة المالية من جهة وعدم وجود السكن نفسه نظرا لعجز السوق عن تلبية الطلب المتنامي، من جهة أخرى. كان الحل الذي قررته الوزارة أن تتولى مهمة توفير عرض كبير لتغطية عجز السوق عن تلبية الطلب. أي أن تضخ الوزارة آلاف المساكن بسرعة عاجلة بالتعاقد مع شركات كبرى من خارج المملكة للتصميم والتنفيذ. تبدو هذه المنهجية بديهية أول الأمر. لكن عندما نختبر بداهتنا في مجالات أخرى سنكتشف ان حلول المشكلات المعقدة لا يجب أن يكون مبنيا على البداهة. فوزارة الإسكان تشبه الطبيب الذي يقرر حل مشكلة الصداع جراحيا. فالبداهة تملي على الطبيب أن يتجه إلى مصدر المشكلة لحلها، إنما الحل -كما هو معروف- موجود في منطقة أخرى. فالطبيب عندما يعالج مشكلة الصداع يتجه لحلها باستخدام الأدوية من طريق المعدة. والمعدة عنصر بعيد مكانيا عن منطقة المشكلة لكنه متصل به من خلال نظام الجسد: الدورة الدموية، القلب، الكبد، إلخ. فدون فهم عميق للعلاقة بين المعدة والنظام الجسدي بعناصره كلها لا يمكن للطبيب معالجة الصداع بحبة أسبرين، وتحاشي ظهور مشكلات أخرى نتيجة لحل مشكلة الصداع، كالاضرار بصحة الكبد. ولا يمكن الوصول إلى حل من هذا النوع إلا باتباع المنهج التركيبي الذي يقتضي معرفة العناصر المكونة للنظام، ثم فهم العلاقات بين العناصر، ثم فهم دور كل عنصر من خلال العلاقات المتكونة أثناء عمل النظام. لكن كيف للمنهج التركيبي أن يقدم حلا أنيقا لمشكلة الإسكان يشبه في ذلك حل مشكلة الصداع؟ لاتباع المنهج التركيبي على المؤسسة أن تتعرف إلى النظام الذي تقيم فيه المشكلة. فالنظام الذي تقيم فيه مشكلة الإسكان مكون من عناصر عديدة من أهمها الفرد/ العائلة. ففي زيارة مع مجموعة من الأقارب والأصدقاء إلى إحدى مدن المملكة، سألت أهل البلد عن رأيهم في مشاريع الإسكان التي ستنتهي قريبا، فقيل لي إن السكان لا يعرفون عن المشروع سوى ما ينشر في وسائل الإعلام. وحسب ما تبين لهم، إن التصاميم التي تنفذ الآن لا تلبي المتطلبات المحلية. أي ان عنصر الفرد/ العائلة التي سيؤول إليه السكن في نهاية الأمر، ليس مشتركا في اتخاذ القرار. من العناصر الأخرى المكونة للنظام الذي تقيم فيه مشكلة الإسكان، عنصر القطاع الخاص. فقطاع المقاولات المكون من فئات متعددة هو من سيؤول إليه السكن كسلعة عندما يدخل في السوق. ووزارة الإسكان لم تنظر إلى القطاع الخاص سوى من جانب التنفيذ. أي إن القطاع الخاص لم يشارك في دورة صناعة المسكن التي تبدأ من دراسة حاجات السوق إلى التصاميم ثم التنفيذ. وبالنظر إلى عنصرين من عناصر النظام المتعددة يتبين ان مشكلة الإسكان تعالج بمنهجية تحليلية/ تفكيكية تفترض إن المشكلات يمكن أن تحل بمعزل من البيئة التي تكونت فيها. يمكن وصف الإسكان ومشكلاته بالتحدي التنموي الذي تلتقي فيها جوانب سياسية واقتصادية واجتماعية وجمالية. والمشكلة التنموية التي لها وجه إسكاني لا يمكن حلها بالإسمنت والحديد المسلح فقط. بل لابد أن تعالج المشكلة بصناعة أدوات سوقية توظف لتمكين جميع عناصر النظام-القطاع الخاص، الدولة، القطاع المالي، الفرد/ العائلة - من ممارسة دورهم بإزالة العوائق التي تحد من فاعليتهم. أما حين تقوم جهة واحدة بلعب دور عناصر النظام جميعها أو تجاهل بعضها، فإنها تحمل نفسها ما لا تطيق. ومآل ذلك مؤسسة محدودة الفاعلية تنتج مخرجات لا تنتمي إلى الحل، إنما تصبح مخرجاتها مع الوقت مشكلة بحد ذاتها.