يهدف علم الاقتصاد إلى اكتشاف الأسباب التي تجعل الأفراد أكثر ثراء وسبل جني المزيد من المال، بيد أنه رغم كم العقول المخصصة لهذه الغاية، فإن ما يثير الدهشة مدى ضآلة إنتاجهم الذي يستعين به صناع السياسة. على النقيض من ذلك تقوم الحكومات والشركات والهيئات الأخرى بتمويل أبحاث العلوم التطبيقية بدءا من تكنولوجيا المعلومات إلى البيولوجيا الخلوية، ومن الهندسة إلى الزراعة، حتى يتمكنوا من استخدامها لجني المال أو حل المشكلات. لكن الاقتصادات الكلية، التي تهتم برفاهية الأفراد، ينبغي أن تكون المجال الأكثر أهمية من الناحية العملية. ولذا هل تنشر دوريات الاقتصاد الكلي الرائدة عملا نافعا؟ وبناء على الحكم من مؤتمر عقد أخيرا شمل منظمين من الاحتياطي الفيدرالي وبنك إنجلترا المركزي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لم تكن الإجابة مشجعة. فرغم مرور ست سنوات على الأزمة المالية التي كشفت الأخطاء الجوهرية في النظريات والنماذج الاقتصادية المهيمنة، فإن الاقتصاد لم يبذل الكثير لتصويب نفسه. قال صناع السياسة إن الدوريات الاقتصادية لا تنشر أبحاثا أو تقدم أدوات يمكن من خلالها تنفيذ عملهم، حيث تميل الثقافة المهيمنة على تلك الدوريات إلى نشر النظريات المعقدة ذهنيا والمحفزة عقليا على النظريات المفيدة. وكما قال أحدهم: «نحن نؤيد الحصار الطويل الذي تظل فيه الاقتصاديات المفيدة النافعة بعيدة عن الدوريات النظرية الكبرى». حاول أن تتخيل هذا يحدث في أي مجال آخر من البحث التطبيقي. في مجال الكيمياء أو علوم تربية النباتات على سبيل المثال. ماذا لو أبعدت أكثر الأفكار فائدة بشأن اللقاحات الجديدة عن دوريات علم المناعة؟ لماذا يختلف الاقتصاد الكلي؟ يقول الباحثون إن إحدى المشكلات هي أن الاقتصاديين البارزين الذين يسيطرون على هذه الدوريات يميلون إلى التقوقع بعيدا بمعزل عن التفكير الذي يغرد خارج سرب العقيدة الراسخة، والذي يفترض أن الناس يتصرفون بعقلانية وأن الاقتصاد يعود دائما إلى توازن مستقر. وترفض الأعمال الجيدة بحجة أنها «تخدم غرضا ما» أو «تفتقر إلى المضمون الاقتصادي». ويقول صناع السياسة إنهم يريدون أن يروا تحولا في النظام في الاقتصاد الكلي، وتركيزا أكبر على التاريخ والدروس التي يجب تعلمها من أزمات الماضي. إنهم يريدون مزيدا من النزاهة والتواضع بشأن نتائج المعادلات الرياضية مع تأكيد أكبر على الشكوك والتوقعات بأن ذلك يتضمن في حقيقة الأمر نطاقا واسعا من النتائج المحتملة. إنهم يريدون فهما أفضل للمخاطر ومصادرها المتعددة. ما لا يحتاجون إليه هو مطالب واضحة بشأن ما ينبغي على صناع السياسة القيام به، ويفضلون أيضا قدرا أدنى من الخيال مع التوفيق بين نظريات خاطئة عن الاقتصاد الكلي ونظريات معيبة على نحو مماثل حول كيفية اتخاذ الشركات والأفراد القرارات. هذا النوع من «الأسس الصغيرة» التي هيمنت على المنهجية الاقتصادية منذ السبعينات. وللوصول إلى هذه الغاية، ينبغي على الاقتصادات الكلية أن تتعلم كيف تتحدث لغات المجالات الأخرى، مثل علم الاجتماع وعلم النفس، وعلم الأعصاب والهندسة، إذن ينبغي عليهم الاعتراف بأن الأفراد ليسوا عملاء متماثلين يسعون خلف الأرباح. يجب عليهم أن يتعلموا كيفية الاستعانة بالقطاع المالي الواقعي والمتطور في معادلاتهم. وقد أشار أحد المنظمين إلى أنه من السخف التفكير في التمويل بوصفه مجرد نوع من «الخلافات» التي قد تعدل هامشيا الوسيلة التي يعمل عبرها الاقتصاد. فالروابط المالية الكثيفة تربط الأجزاء المختلفة من أي اقتصاد حديث، وهي قادرة أيضا على تحويل الصدمات الصغيرة إلى كوارث تدمر الاقتصاد. وقد دافع بعض الاقتصاديين خلال الاجتماع عن النماذج الراسخة، مؤكدين على أنها ذات عون في التعريف بكيفية عمل الاقتصاد. ربما، لكن مثل هذه الروايات ستكتمل الفائدة منها إذا أخبرتنا بشيء صحيح، لا أن تروي أساطير مريحة تعمينا عن المخاطر الحقيقية. يريد صناع السياسة قصصا مقبولة، فهل تستطيع ثقافة علم الاقتصاد ذلك؟ * خدمة «بلومبرغ» خاص بـ«الشرق الأوسط»