رواية "المجاعة البيضاء" هي أول رواية لكاتبها آكي أوليكانين التي ترجمتها أخيرا خالد مكاوي، وصدرت عن دار العربي للنشر، حصلت على جائزة "هيلسينجين سانومات"، كما تم ترشيحها لجائزتي "فينلانديا برايز" و"تولينكانتايات برايز"، ومؤخرًا تم وضعها بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العالمية، وهي من أهم الجوائز الأدبية المخصصة للأعمال الروائية باللغة الإنجليزية. تدور الرواية حول المجاعة في فنلندا عام 1867، ونزوح عدد هائل من المزارعين إلى المدن المجاورة من أجل تسول الطعام. وهو ما يدفع مجلس الشيوخ بالعاصمة هلسينكي إلى البحث عن بدائل يستطيعون بها السيطرة على تلك الأزمة. المكان الذي تدور فيه الأحداث يتصف بالكآبة، والحبكة تعتمد بطريقة رئيسية على التوازي، حيث تجد فصلا يدور حول مشاعر شخصية واحدة وعندما ينتهي بموتها، يبدأ فصل آخر يدور حول مشاعر شخصية أخرى وبين كل شخصية وأخرى يوجد فصل يحكي عما يدور في مجلس الشيوخ، وهكذا. الجميل في هذه الرواية هي طريقة تقسيم الفصول ووصف الطبيعة والأشخاص ومعاناتهم، وكيف ربط المؤلف الثلج ولونه الأبيض بمصير أبطاله. نجده يقدم لنا المعاناة التي مر بها الناس في تلك الفترة من خلال عائلة بسيطة مكونة من زوجين وصبي وفتاة. يموت الزوج أولاً، فتترك الزوجة بيتها آخذة معها طفليها ليبدأوا رحلتهم إلى مدينة سان بطرسبرج أو "مدينة القيصر". طوال الطريق هي تحلم بتلك المدينة وتتصور انها ستكون نهاية شقائها. أول شخصية يقدمها لنا الكاتب هي شخصية ابنتها "ماتالينا"، بعدها يقدم لنا فصلاً بعنوان شهر معين في سنة معينة، يسرد فيه أحداثًا عامة حدثت حينها، ثم يستكمل فصول شخصياته. •من أجواء الرواية: رأى "تيو" عدة جثث على جانب الطريق خلال تلك الرحلة، ولكن المرأة كانت الوحيدة التي رآها وهي تموت. ماتت سريعًا، بدون طريقة درامية. سقطت فقط ولم تستطع النهوض ثانية. وكأن الأرض ابتلعت روحها وتركت جسدها خاليًا. ولكن هل تستطيع الروح اختراق هذه الأرض المتجمدة؟ تساءل "تيو". ربما اختفى ما كان بداخل المرأة فحسب. تضاءلت روحُها، كما ستفعل أرواح الجميع. مع البعض، تشتعل الروح سريعًا، تتوهج كقطعة ورقة أُلقيت في النيران. ومع البعض الآخر، تشتعل ببطء لتتحول لرماد تزروه الرياح كما حدث مع تلك المرأة. لو أن أي شيء تبقى من تلك المرأة، فهذا الشيء يكون الصبي. لا يتذكرها سوى "تيو" و"يوهو". وعلى الرغم من أن "تيو" لا يعرف عنها أي شيء باستثناء طريقة موتها، إلا أنه متأكد من أنه سيظل يتذكرها مدة أطول من التي سيتذكرها بها الصبي عندما كانت على قيد الحياة". *** دوَّى صوت أزيز ناعم عندما سقط الجزء الملتهب في مياه الدلو. نجح الضوء الخافت في تتبع ظل "يوهاني" على الحائط وهو ينهض من فراشه، ويرفع ملابس "ماريا" واضعًا يديه على ركبتيها مباعدًا بين ساقيها، فأمسكت "ماريا" بقضيب "يوهاني" المنتصب. كانت تريد مضاجعته أيضًا ولكن خوفها كان أكبر من رغبتها المتقدة، ماذا إذا حملت مجددًا؟ فما هذا إلا فم جديد يحتاج للإطعام في ظل هذا البؤس. أبعدت "ماريا" "يوهاني" بدفعه إلى الفراش، فتنهد محاولًا إخفاء إحباطه. حركت "ماريا" يدها ببطء صعودًا وهبوطًا ضاغطة على عضوه، ففلت من "يوهاني" أنين خافت، ثم وضعت يدها بين ساقيها، استمنى "يوهاني" أولًا، وعضت "ماريا" ياقة قميص نومها، واجتاحت أمواج الرغبة جسدها، وعقب إحساسها بالجوع مرة أخرى، ضربت رأس عضو " يوهاني" وأخذت تفكر في أسماك الكراكي النحيلة. *** انهار جانب القارب. لم ينج من الشتاء، فألواحه لم تتحمل وزن الجليد. اندفع طائر العين الذهبية من عشه وطار فوق القارب المُحطم، انتشر صوت رفرفة جناحيه عبر البحيرة حتى أضاعت الريح كل الأصوات واستبدلتها بالصمت. لكن، دوَّت صيحة طائر "الغوَّاص" الوحيد لتقطع هذا الصمت. وقف رجل طويل نحيل على حافة المياه. ترك نظره يتجول على الأمواج والشاطيء المقابل. وتمايل جسده الذي أتلفه الجوع والمرض مع الريح. استطاع أن يقف منتصبًا بمساعدة عصاه فقط. ثم أفلتت الأصابع الطويلة النحيفة العصا التي سقطت محدثة صوتا يشبه صوت ارتطام رمح بحزمة من البوص. انخفض الرجل بحذر متخذًا وضع الجلوس على حجر مجاور للمياه، ثم خلع حذاءه، ونزع سترته البالية، وقميصه وبنطاله، ونزل إلى البحيرة عاريًا. كانت المياه لا تزال باردة، ولكن الرجل بالكاد لاحظ هذا، فالبرد الذى عانى منه كان كبيرا بطريقة لا يمكن استيعابها حتى أنّه في النهاية تحوَّل إلى فراغ كبير. أتى الصيف. تشبث الرجل بهذه الفكرة، آملًا أن يملأ بها فراغ عقله، فلا تبقى به مساحة لأي شيء آخر. صاح طائر "الغوَّاص" مرة أخرى. غاص الرجل في المياه أكثر، وعندما وصلت المياه فوق ركبتيه، فرد ذراعيه ورمى جسده للأمام. استقبلته البحيرة.. غمرته المياه وهو يهبط ببطء نحو القاع، وللحظة، اعتقد الرجل أنه لن يطفو ثانية. ثم بدأ يسبح. محمد الحمامصي