×
محافظة مكة المكرمة

الفيصل يطلق فعاليات معرض جدة الدولي للكتاب ويكرم المبدعين

صورة الخبر

استيقظت الطفلة سوسنة بولس (10 سنوات) مبكرا يوم الأحد الماضي، فاليوم عطلة رسمية من الدراسة، وستتمكن من الذهاب مع والدها كاهن الكنيسة البطرسية بالعباسية، وسط العاصمة المصرية القاهرة، لحضور قداس الأحد. ارتدت سوسنة ملابسها بسرعة وهي تحث والدها على النزول بسرعة، جاذبة إياه من ملابسه نحو باب المنزل، ليصلا إلى الكنيسة في التاسعة صباحا، فالقداس يبدأ في التاسعة والنصف، ويستمر نحو الساعة. ما إن عبرت سوسنة الباب الخارجي للكنيسة حتى أسرعت لتحتل مكانها مع والدتها في صفوف السيدات بقاعة الكنيسة الرئيسية ليبدأ والدها صلاة القداس، وتستمتع بصوته وهو يتلو آيات الإنجيل والصلوات المسيحية باللغة القبطية القديمة، وتنهمك هي في الصلاة، مرددة كيرياليسون (يا رب ارحم باللغة القبطية) حتى حانت منها التفاتة نحو الساعة الكبيرة المعلقة على الحائط لتجد أن عقاربها تشير إلى العاشرة إلا بضع دقائق، لتهبط بعينها على شخص يرتدي معطفا ثقيلا ويخفي شعره بغطاء للرأس وقبل أن تلفت نظر والدتها إلى أن الرجل دخل في المكان المخصص للسيدات، نظر الرجل شاخصا إليها ثم وضع الرجل الذي تصفه سوسنة بـ«صاحب الوجه الأسود» يديه في جيبه، ليدوي انفجار ضخم ويتحول بعدها الرجل إلى أشلاء، وتشاهده الطفلة وتسقط على الأرض. دقائق مرت على سوسنة وهي ملقاة على الأرض تعي ما حولها لكنها عاجزة عن الحركة، حتى حملها أحدهم إلى مستشفى الدمرداش الملاصق للكنيسة، وهناك أجريت لها عدة عمليات جراحية وما زالت تخضع للعلاج في غرفة الرعاية المركزة بالمستشفى حتى الآن. التقرير الطبي يشير إلى أن سوسنة مصابة بتهتك في الطحال جراء الموجة الانفجارية مما استدعى استئصاله، إضافة إلى بعض الجروح السطحية في الجسد. وتعد سوسنة شاهدا رئيسيا في القضية لكونها من القلائل الذين رأوا منفذ العملية ولم تكن الطفلة الوحيدة بين ضحايا الحادث الإرهابي، فماجي مؤمن (10 سنوات) ودميانة مجدي (8 سنوات) طفلتان تصارعان الموت حاليا جراء إصابتهما بجراح خطيرة في الحادث. ماجي مصابة بشظية في المخ وتهتك في الرئة، وتتلقى العلاج في مستشفى الجلاء للقوات المسلحة، بينما دميانة مصابة بشظايا وتهتك في البطن، وتتلقى العلاج في المستشفى نفسه. والد ماجي ووالدتها في حالة نفسية صعبة، بسبب شائعات ترددت كثيرا عن وفاتها، ورفضا الحديث لـ«الشرق الأوسط» واكتفيا بالقول: «ربنا موجود»، مطالبين الجميع بالتوقف عن تداول خبر وفاة الطفلة حيث يتلقيان اتصالات هاتفية من الأهل والأصدقاء تعزيهما في ابنتهما التي لا تزال على قيد الحياة، فيما قال ثروت عجايبي عم الطفلة دميانة في اتصال هاتفي لـ«الشرق الأوسط»: «إنها تحتاج للدعاء، لتتجاوز ظروفها الصحية الصعبة». ووجه الشكر لأجهزة الدولة المصرية، على اهتمامها بالمصابين، مشيرا إلى أن الفريق صدقي صبحي، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي المصري، زارهم أمس (الأربعاء) في المستشفى، وأكد أن «أجهزة الدولة ستقوم باستئصال سرطان الإرهاب بالكامل من المجتمع المصري في القريب العاجل». وأضاف عجايبي: «نحن لسنا أقل من أي مصري ضحى بأبنائه من أجل الوطن، ولكن المحزن تعرض الأطفال لهذا العنف ومشاهد الدماء». وقال بحماس ووطنية طاغية: «أنا مقيم بالنمسا منذ 24 عاما وسافرت لكثير من الدول الأوروبية وأعلم جيدا أن الإرهاب موجود في كل بلد». لقد فقدت دميانة وإخوتها جدتهم لأمهم لكن الأسرة في حالة تماسك وإيمان بقضاء الله. ويقول عجايبي بثقة: «الشرطة المصرية توصلت للجناة في وقت قياسي»، مضيفا: «لا يوجد تقصير أمني وكاميرات المراقبة بالكنيسة سجلت كل شيء». وقال ساخرا: «جميعنا نعلم أن من كانوا أمام الكنيسة يحملون الأسلحة ويعتدون على الناس والإعلاميين ليسوا منا... نعلم أنهم مأجورون يريدون إشاعة الخراب والدمار». ويستنكر عجايبي ما تبثه قنوات الإعلام الغربي قائلا: «تحدثت لقناة ألمانية، أول من أمس، وفوجئت باقتطاع كلامي وتحويره ليبدو من السياق أن الحادث طائفي وليس إرهابيا». القس أنطونيوس منير، كبير كهنة الكنيسة البطرسية، فجر مفاجأة حين أعلن أن الإرهابي الانتحاري «زار الكنيسة ليلة الحادث، وطلب من البعض هناك كتبا عن الديانة المسيحية لأنه يريد أن يعرف معلومات عنها، فأخبروه أن الكنيسة مغلقة لأن الساعة تجاوزت الحادية عشرة مساء، وطلبوا منه العودة في اليوم التالي في العاشرة صباحا لمقابلة المسؤول عن مكتبة الكنيسة، وهو ما فعله لكنه عاد مرتديا حزاما ناسفا لينسف المكان بمن فيه من أرواح بريئة». القاعة الرئيسية في الكنيسة الأثرية التي بنيت عام 1911 تعرضت لدمار بالغ، فأماكن الجلوس كلها باتت حطاما، وزجاج النوافذ تحول إلى شظايا، الدماء في كل مكان، ووصلت الشظايا إلى مدخل القبر المدفون فيه الدكتور بطرس غالي الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة الذي بنت أسرته الكنيسة. وعلى بعد أمتار من القاعة التي شهدت الانفجار، أقامت الكنيسة مساء الثلاثاء عزاء مجمعا لضحايا الحادث، حضره مئات من المصريين، من المسلمين والمسيحيين، وكان لافتا حضور شيخ مسلم بعمامته الأزهرية الحمراء، فهو جار لإحدى ضحايا الحادث وجاء ليعزي أسرتها الذين استقبلوه بالأحضان شاكرين حضوره. حالة من الوجوم عمت العزاء ليس حزنا على الضحايا ولكن على مصير الأسر التي فقدت الحضن الدافئ لها والأمهات اللاتي رحلن تاركات أطفالهن يواجهون مصاعب الحياة. سرادق العزاء كان خير شاهد على حالة الحزن التي عمت البيوت المصرية، حيث وقفت السيدات المسلمات يشددن من أزر جاراتهن المسيحيات وتبدو عليهن علامات الصدمة والألم. مارلين عماد، مدرسة في إحدى المدارس بالقاهرة، جلست في العزاء تبكي والدتها أنجيل نور، التي قضت في الحادث، قائلة لـ«الشرق الأوسط»: «ماذا فعلت والدتي لتموت بهذا الشكل؟»، مضيفة «هاتفتني صباح الأحد الماضي لتدعوني إلى الغداء عندها مع أسرتي باعتبار اليوم عطلة رسمية، لم أكن أدري أنها المكالمة الأخيرة». وتضيف: «عرفت بالحادث من التلفزيون ولما كنت أعلم أنها في الكنيسة البطرسية توجهت مسرعة إلى هناك، لأجدها وقد نقلت إلى مستشفى الدمرداش، حيث أخبرني الأطباء أن حالتها صعبة وتحتاج إلى معجزة، وظلت يومين في الرعاية المركزة حتى توفيت». مارلين تقول وهي تغالب دموعها: «أصدقائي المسلمون كانوا أول من واسوني... أعتقد أن من فعل هذا ليس بمسلم ولا إنسان أصلا، لماذا يحرموننا من أحبائنا؟». إلى جوار مارلين كانت سيدة تتشح بالسواد تبكي دون صوت لكن نظراتها الذاهلة كانت لافتة. إنها أم فقد ابنتيها مارينا فهيم (20 عاما) وفيردينا فهيم (18 عاما) في الحادث. هول الصدمة أخرس والدة مارينا وفيردينا فلم تكن تتكلم مع أحد، لكن ميريت ناجي إحدى قريباتها قالت لـ«الشرق الأوسط»: «ما حدث كان كابوسا، لا يمكن لأحد أن يتخيل شعور أم ودعت ابنتيها الذاهبتين للصلاة في الكنيسة فعادتا إليها جثتين هامدتين». وتضيف: «كانت مارينا وفيردينا مواظبتين على الذهاب للكنيسة، وهما من الفتيات المبتسمات دائما وكانتا دائما تتطوعان للخدمة، نحن رغم حزننا البالغ، نقول هنيئا لهما بتلك الميتة، وبدلا من أن تفرح أمهما بزفافهما، شيعت جنازتهما».