«عن أي إنسان تتحدثون وعن أية حقوق؟!»، سؤال تكرّره غالبية السوريين بحرقة وألم، حين تستوقفها اليوم ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقد وصلت حقوقها وحيواتها إلى أرذل درجات الاستهتار والانحطاط. والجواب لا يتعلق فقط بتفاقم الصراع الدموي بين نظام لا يعترف بوجود البشر أساساً ليعترف بحقوقهم، وبين جماعات جهادية لا ترى الإنسان إلا بصفته وسيلة عمياء لتنفيذ ما تعتقده شرع الله على الأرض، ولا بما خلّفه العنف المنفلت من تشوّهات وشروخ في الماهية الآدمية والعلاقات الإنسانية، وإنما يتعلق أساساً بتخلّي المجتمع الدولي عن دوره المفترض في حماية حقوق الإنسان بصفتها قيماً عليا وشرعة عالمية، وتالياً بعجزه عن المبادرة لوقف العنف وحماية المدنيين وردع مختلف الانتهاكات التي يتعرض لها السوريون، ليبدو، بدوله وحكوماته، كأنه يتاجر بدمائهم ومعاناتهم، مكتفياً بعبارات القلق والأسف والإدانة، التي لا توقف فتكاً وقهراً وتدميراً، ولا تحمي الهاربين من جحيم القتال والاعتقال والإذلال. والجواب أيضاً، أنه لا مناص من إعلاء شأن الإنسان وحقوقه على رغم ما يحصل، وبالضد ممن لا يزالون يمعنون تخريباً في حيوات البشر ويستدرجون ما هب ودب من الغرباء لقهر إخوتهم في الوطن وسحقهم، وتعاطفاً مع من لا تزال تصليه نار عنف أعمى استخدمت فيه أشنع وسائل التنكيل، مع من يلملم بقايا أجساد تناثرت نتيجة قصف عشوائي لا يرحم، مع صراخ طفلة انتشلت للتو مدماة من بين الأنقاض، مع مكابرة نازح وأنفة لاجئ، مع نحيب الأمهات الثكالى، ومع أنات عشرات ألوف الجرحى والمشوهين في حرب لم تعد لهم فيها ناقة ولا جمل. والقصد أن لا مناص من التمسّك بحقوق الإنسان وإشهارها كمخرز في عيون أعدائها، وفاءً لمئات ألوف السجناء والمختفين قسراً، الذين يتعفنون في كهوف للتعذيب هي أشبه بالجحيم، وقد مضت على اعتقال غالبيتهم سنوات من دون تهمة أو محاكمة! ودعماً لعشرات ألوف الهائمين بحثاً عن أهلهم وأبنائهم، يطرقون كل الأبواب ويتعرضون لمختلف أنواع الإذلال عساهم يحصلون على معلومة أو خبر يجلي الغموض الذي يكتنف مصير مفقوديهم! وتذكيراً بآلاف المدنيين الذين لا يزالون مغيبين في أقبية جماعات مسلحة، بعضها يحمل لواء المعارضة، وبعضها الآخر أفرزه الصراع الدامي وصار عنواناً للخطف والابتزاز. فكيف الحال تجاه الظلم والحيف اللذين يطبقان على ملايين السوريين اللاجئين، حين يجبرون على العيش في معازل ومخيمات بشروط سيئة لا تليق بالبشر، ويرزحون تحت وطأة خوف عميق من الطرد والاستبعاد ومن هشاشة حياتهم بلا مؤسسات ولا عمل، ومن النقص الحاد في المواد الغذائية والألبسة والرعاية الصحية، بخاصة مع اقتراب فصل الشتاء وما يرافقه من موجات برد شديد وأمراض؟ وكيف الحال تجاه أبناء المناطق المحاصرة وقد كواهم الجوع والعطش ليكملا ما يخلّفه استمرار القصف والتدمير؟ وكيف الحال تجاه ملايين النازحين الهاربين من آتون العنف طلباً للأمان ويكابدون الأمرّين في البحث عن مأوى وفرصة عمل تؤمن لقمة عيشهم وأبسط مستلزماتهم الحياتية، بعضهم أرغم على التسوّل وأكثريتهم على قبول أعمال وضيعة ومذلة لا تليق ببني آدم، والأنكى أن عقدة الخوف من الملاحقة والتعذيب والسجن تتضاعف عندهم بسبب انتماء غالبيتهم إلى المناطق المتمردة، حتى صار بعضهم يجد الموت أرحم مما يكابده من رعب الاعتقال ومن قهر وجوع، زاد الطين بلة انحسار قدرة المنظمات الإنسانية الدولية على تقديم ما يحتاجونه من الرعاية والحماية طرداً مع محاصرتها سلطوياً وانحسار إمكاناتها ومصادر تمويلها. وكيف الحال تجاه أطفال تردت أوضاعهم الصحية والتعليمية، وضاعت على الملايين منهم فرصهم في الدراسة والتعلم؟ ليغدوا صيداً سهلاً لدى الجماعات المسلحة كي تجندهم وتزجهم أغراراً في أتون الحرب، ولدى المقتدرين لإجبارهم على التسول أو القيام بأعمال مجهدة لا تتناسب مع أعمارهم وقدراتهم، والأنكى استغلالهم جنسياً، لينجلي المشهد عن تكرار فضائح شبكات الدعارة ومكاتب تزويج القاصرات السوريات عرفياً. وإذ نعترف بأنه لا يوجد الآن أكثر من اليوم العالمي لحقوق الإنسان كعنوان لسخرية السوريين المريرة، ربطاً بما يكابدون يومياً من أشرس أنواع الانتهاكات وأقذرها في التاريخ الحديث، ونعترف بأن ما وظف من عنف ومن شحن للغرائز الطائفية لسحق حلم السوريين بالتغيير الديموقراطي فاق التوقعات، وأن ثمة احتمالاً يتقدم للارتداد صوب الاستبداد ونحو نتائج مأسوية تؤخر حلم التغيير، نعترف أيضاً بأننا ما كنا لنصل إلى ما نحن فيه لولا تغييب حقوق الإنسان والتهميش المزمن لدور البشر في حماية المجتمع من الاستبداد والعنف، ما يعني أن إشهار حقوق الإنسان اليوم وإعلاء مبادئها ونشر ثقافتها، ليست ترفاً بل ضرورة حيوية تزداد إلحاحاً كلما ازدادت شدة المحن والنكبات، لأنها أولاً، عنوان للحقيقة التي من دونها يصعب مواجهة منطق القهر والغلبة وفضح استسهال تدمير المجتمع ومستقبل أجياله لإدامة التسلط والامتيازات، وثانياً، لأن مبادئها وقيمها تزرع الأمل في قلوب الملايين ممن يريدون الخلاص من هذه المقتلة ويبحثون عن غد أفضل لوطنهم وأبنائهم، ولأنها ثالثاً تعترض تراجع الاهتمام الأممي بحقوق الإنسان وتفضح التحول عنها نتيجة تنامي النزعات الشعبوية والعنصرية. صحيح أن للشعب السوري حقاً على المجتمع الدولي في دعمه ومساندته ضد العنف والإرهاب، وقد تعاهد معه عبر المواثيق الأممية على التكافل والتعاضد لحماية الناس من بطش حكامها، وصحيح أن العالم خذل السوريين وهم في أشد لحظات الحاجة إليه، لكن الصحيح أن من واجبات السوريين توظيف شدة محنتهم لنصرة حقوق الإنسان لا رذلها والاستهزاء بها، ليس فقط لأن انتصارها يصنع عالماً أفضل وأكثر جمالاً وعدلاً، وإنما تحسباً من أن يفتح هذا الاستهزاء، الشهية على المزيد منه، لدى شعوب المعمورة.