تكررت طوال الأعوام الخمسة السابقة التكهنات والتوقعات والتقارير والدراسات التي تتحدث عن إمكان نشوب موجة جديدة من الاضطرابات والاحتجاجات والصدامات التي اجتاحت أجزاء من العالم العربي قبل خمس سنوات، وانتقلت شرارتها من دولة إلى أخرى لتُخلف وراءها وضعاً مأسوياً في كثير من بلدان العالم العربي، يتمثل في حروب أهلية طاحنة، ووقوف دول عدة على حافة السقوط أو التفكك، وموجات من النازحين واللاجئين والمشردين، وانهيار اقتصادي لا يبدو التعافي منه قريباً. ولم تقف الآثار السلبية عند الدول التي شهدت هذه الاضطرابات، بل امتدت إلى دول مجاورة، وأذكت مناخ الترقب والخوف في دول أخرى. تجدُّد الحديث عن «الربيع العربي الجديد» خلال الأسبوعين الماضيين جاء على هامش صدور «تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2016» في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، وقد حمل عنوان «الشباب وآفاق التنمية الإنسانية في واقع متغير». والعنوان مجرداً يوحي بكثير مما سيتناوله التقرير، وبالنتائج التي يمكن أن يتوصل إليها، ومنها على سبيل المثال الإشارة إلى أن «تجاهل أصوات الشباب وإمكاناتهم سيؤدي إلى تصاعد وتيرة عدم الاستقرار، وتزايد أخطار التشظي الاجتماعي وتفكك الدولة». كذلك توحي الجملة الافتتاحية للتقرير بالأجواء المهيمنة عليه، إذ استُهل التقديم الذي يتصدر التقرير بالعبارة التالية: «يأتي هذا التقرير بعد مرور خمس سنوات على أحداث العام 2011، أو ما اصطُلح على تسميته الربيع العربي». على رغم ما سبق، فإن التقرير نفسه لم يُشر صراحة إلى «ربيع عربي جديد». والحديث عن أن تجاهل أصوات الشباب ينطوي على أخطار تمس استقرار الدول ووحدتها ليس بالأمر المُستغرب أو المقتصر على التقرير، بل إنه أقرب إلى البداهة. ومع ذلك فقد اتخذ الحديث منحى آخر حين نشرت مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية تقريراً بعد يوم واحد من صدور تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2016، قالت فيه إن التقرير الأممي «يلمح» إلى حدوث الاحتجاجات العربية كل خمس سنوات، وأنها نشبت في الأعوام 2001 و2006 و2011، بما يعني أنها تكرر كل خمسة أعوام، وكانت تزداد حدة في كل مرة، وأنه يبدو أن هناك - وفقاً لهذا التواتر - موجة جديدة من الاحتجاجات توشك أن تندلع. تعبير «يلمح» كان هروباً من حقيقة أن التقرير الأممي لم يذكر ما أوردته المجلة، وكذلك تعبير «يبدو أن هناك موجة من الاحتجاجات» الذي لا يقطع بشيء، ولكن الرسالة المتضمنة فيه وصلت بقوة، وأصبحت تُنقل إلى اللغة العربية في ما يشبه تأكيد قرب حدوث «ربيع عربي جديد»، ونشطت ماكينات الدعاية الراغبة في ترويج ما نشرته «ذي إيكونوميست» وكأنه هو نفسه فحوى التقرير الأممي، إيماناً منها بأن الاحتجاجات والاضطرابات يُخطط لها أولاً في عالم الأفكار ثم يجري نقلها إلى أرض الواقع، وأن تكثيف الحديث عنها يصنع إرهاصات ومحاولات أولية، تستدعي حديثاً أكثر فتحركات أوسع وهكذا إلى أن تتسع الدائرة. وسرعان ما أصبح تقرير «ذي إيكونوميست» أكثر انتشاراً من تقرير التنمية الإنسانية العربية نفسه، بحكم قدرته على اختصار القصة والرسالة التي يريد أن ينقلها في عنوان بسيط وخادع، وبحكم حاجة القوى الدولية والإقليمية والمحلية صاحبة المصلحة في تغذية الفوضى العربية إلى مزيد من الطاقة الدافعة لتنفيذ مخططاتهم، لأنها لم تجرِ على النحو الذي يشتهون في الموجة السابقة من الاضطرابات، ولأن قوى عربية شتى، على رأسها دول خليجية، نجحت في إحباط ما كان يُحاك للمنطقة من سيناريوات التقويض والتدمير. النتائج على الأرض تقول إن الاضطرابات العربية كانت وبالاً على الجميع، وفي تقدير أخير للأمم المتحدة فإن الخسائر الناجمة عنها بلغت 614 بليون دولار منذ العام 2011، وهناك تقديرات ترتفع بها إلى ما هو أكثر. وهذه الحقيقة هي ما يجعل معظم من شاركوا في الاضطرابات، وكثيراً ممن تحمسوا لها، يراجعون أنفسهم ويرفضون رفضاً قاطعاً أن يكرروا ما فعلوا قبل خمس سنوات. وهذه هي الطريقة التي يفكر بها أي عقل رشيد، ولكن من قال إن جموع الناس يتحركون دائماً بناء على حسابات رشيدة؟ من قال إن الجموع التي تؤخذ من عواطفها وتتعرض في شكل منظم لأشكال من التحريض وتشويه الحقائق وتحريك نعراتها الدينية والقومية والمناطقية والطبقية والأيديولوجية تستطيع أن ترى الحقائق البسيطة مهما كانت درجة وضوحها؟ من هنا، وعلى رغم ما يبدو في تقرير «ذي إيكونوميست» وفي تقارير سابقة لها من نزوع إلى مجافاة الحياد والتجرد، فإننا يجب أن نحسب حساباً لإمكانية تجدد الاضطرابات، ففي الداخل العربي جماعات منظمة وذات خبرة في العمل السري، مثل جماعة «الإخوان المسلمين» التي تنفخ في نار الفوضى وتنتشر في كل الدول العربية وتتحرك بتنسيق تام وتحت سيطرة مركزية، وتساعدها موازنات ضخمة ودول عربية وأخرى إقليمية وقوى دولية. ومشكلة تقرير «ذي إيكونوميست» هي ما ينطوي عليه ضمناً من أن القوى الدولية الراغبة في إعادة هندسة المنطقة العربية ورسم حدود جديدة لدوله، جغرافياً وجيو - استراتيجياً لا تزال ناشطة، وهذه القوى هي من يقف وراء تقارير المجلة وسواها إعلامياً، كما يتحرك في الاتجاه نفسه سياسياً. ولكل ما سبق، علينا ألا نستبعد حدوث موجة جديدة من الاضطراب في المنطقة. لقد نجحت مجموعة من الدول العربية في أن تُجنِّب نفسها وشعوبها الهجمة الأولى، وعلى رأسها دول الخليج، فقد استطاعت أن ترمم بسرعة الثغرة التي أحدثها التآمر الإيراني في البحرين، وأحبطت المخططات الطائفية التي هددت هذا البلد، وانتهت سريعاً محاولات إشعال فتيل الاضطرابات، كما نجحت جهود القوى الوطنية المدعومة عربياً في منع وقوع مصر التي تشكل ثقلاً كبيراً في الوطن العربي، تحت سيطرة «الإخوان المسلمين» الذين كانوا يحلمون بمشروعهم العابر للدول عبر تنظيمهم الدولي. المؤكد اليوم أن دول الخليج من دون استثناء بمأمن من أي مخاوف جدية للفوضى، وتحظى القيادات السياسية فيها بأعلى درجات الشرعية والثقة والإجماع الوطني عليها، والنخب السياسية والفكرية والاقتصادية تمتلك الوعي والرشد، وشعوبها أقدر على التصرف السليم وتحكيم العقل وفهم المعادلات السياسية الإقليمية والعالمية، والمكاسب التنموية تشمل الجميع، والأمل بالمستقبل كبير في ظل ما يتحقق من نجاحات. والشباب الذين يعتبرهم تقرير التنمية الإنسانية العربية الأخير عمود الاستقرار هم الأكثر حرصاً على الاستقرار في دول الخليج، لأنهم الأكثر استفادة من ثمار التنمية. كما أن الآمال معقودة على الشباب في سائر الدول العربية بأن يكونوا قد وعوا الدرس جيداً، وأن يكونوا قادرين على تجنيب بلادهم أي اضطراب محتمل، وهو أمر يتطلب في الوقت ذاته أن تعي الحكومات العربية ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية، والعمل على التجاوب مع متطلبات شعوبها، تعزيزاً للحمة الوطنية، ودرءاً لأي فتنة محتملة. ويُستثنى مما سبق أصحاب الولاء الخارجي أو الولاء المزدوج، الذين يدينون بالطاعة للجماعات العابرة للحدود، وهم الخطر الحقيقي في حالة نشوب أي اضطرابات، لأن ولاءهم لن يكون لأوطانهم، بل للجماعات التي بايعوا قادتها وأقسموا على طاعة أوامرهم وتنفيذها. إن أعضاء هذه الجماعات وأنصارها قلة قليلة، ولكن الانتباه إلى خطرهم واجب. ومن الضروري المضي في استيعاب الأجيال الشابة وتفهمها، ومقاومة كل أشكال التحريض والتزييف مهما حاولت التخفي تحت عناوين زائفة، والانتباه إلى الدور المحتمل لوسائل التواصل الاجتماعي، ووضع الضوابط التي تمنع تحولها إلى أدوات للهدم والفوضى. وفي هذا الإطار فإن رفع مستوى التعليم والوعي، وغرس الشعور بالانتماء، وضرورة تقديم مصلحة الوطن على كل مصلحة أخرى، من بين العوامل التي ستضمن أن أي موجة جديدة للفوضى ستتكسر بعيداً. حفظ الله بلادنا، ووقى العالم العربي شرَّ ما يُحاك له.