بغداد - مطلع عام 2015 نجحت قوات الأمن العراقية في امتصاص صدمة الدولة الاسلامية وشنّ العراقيون هجوما مضادا على المتطرفين الذين بسطوا سيطرتهم على ثلث مساحة البلاد، وتكللت هذه الجهود برغم بعض الأخطاء الفادحة المرافقة لها من استعادة السيطرة على غالبية المدن التي احتلها المتطرفون. تحررت مدن تكريت، بيجي، الشرقاط، الدور، العلم، الصينية، ويثرب في صلاح الدين، والرمادي، الفلوجة، هيت، كبيسة، والرطبة في الأنبار منذ شهور، وأيضاً بلدات القيارة والشورة وحمام العليل وسهل نينوى في نينوى، ولم يبق لدى المتطرفين سوى الموصل وتلعفر في نينوى، والقائم وعانة وراوة في الأنبار. إن انتهاء التحدي العسكري في هذه المدن منذ شهور كشف عدم امتلاك الحكومة العراقية خطة حقيقية لإعادة النظام، فالسلطة الأمنية بيد تشكيلات مسلحة غير متجانسة بعيدة عن رقابة الحكومة في بغداد، اما السلطة المحلية في هذه المدن فقد فقدت الكثير من شرعيتها، وفيما كان على هذه السلطة معالجة هذه المشكلة ونيل دعم السكان المحليين لكنهم انخرطوا في صراعات حزبية عميقة على المناصب. وتتعمق المشكلة في المدن المحررة بسبب الأزمة المالية التي تعصف بالعراق منذ 2015 اثر انهيار أسعار النفط العالمية، فالدمار الذي تعرضت له المدن كان كارثيا، والخطر الأكبر عدم قدرة الحكومة على توفير وظائف للسكان المحليين للحصول على ولائهم، وعلى ما يبدو فأن الوضع سيبقى على حاله خلال العامين المقبلين. سلطة أمنية غير متجانسة إن انهيار جهاز الشرطة المحلية في المدن المحررة كان نتيجة حتمية بعد سيطرة المتطرفين، فالحكومة لم تعد تثق بهذا الجهاز خوفا من اختراق المتطرفين له، ولكن إعادة الاستقرار الأمني في كل شارع ومنطقة وعودة الإيمان مجددا بالنظام القضائي مرتبط بوجود قوات الشرطة. وبعد مرور أشهر على طرد المتطرفين لا خطة حقيقية لتفعيل الشرطة المحلية. في محافظة صلاح الدين تنتشر حاليا أربعة تشكيلات أمنية غير متجانسة، الجيش، الشرطة المحلية، الفصائل الشيعية، قوات العشائر، وتدار الشؤون الأمنية بعشوائية عبر قرارات فردية غير منسقة بعيدا عن رقابة الحكومة العراقية. مضى عشرون شهرا على تحرير تكريت مركز عاصمة صلاح الدين، ولكن مجلس المحافظة المحلي فشل في توحيد هذه القوى المقاتلة وإعادة الصلاحيات الأمنية إليه بموجب قوانين السلطات المحلية في البلاد، والسبب ضعف الشرطة المحلية التي تعتبر الذراع الأمنية الأساسية لأي سلطة محلية، أعدادهم الحالية محدودة لا تكفي لإعادة فتح جميع مراكز الشرطة في المحافظة. الشيء نفسه يحصل في الانبار كبرى محافظات العراق ومعقل التنظيمات المتطرفة منذ سنوات، انهار جهاز شرطتها في خريف 2014 بعدما سيطر "داعش" على غالبية بلدات الانبار الكبيرة باستثناء حديثة والعامرية، وعندها اختار عناصر الشرطة المحليون البقاء في منازلهم فوجدوا أنفسهم مجبرين على إعلان البراءة للمتطرفين للحفاظ على حياتهم. وعندما استعاد الجيش السيطرة على الأنبار في صيف 2016، تعاملت الحكومة مع عناصر الشرطة على أنهم عملاء للمتطرفين، تم طردهم من الخدمة وقطعت رواتبهم، وهددت التشكيلات العشائرية المحلية التي أصبحت الجهاز الامني الجديد في المدينة بقتلهم. ويقول نائب رئيس مجلس محافظة الأنبار فالح العيساوي انه "قبل هجوم داعش كان لدينا 25 ألف عنصر من الشرطة المحلية، والآن يوجد نحو ثلث هذا العدد، ويجب دعم الشرطة من جديد لفرض الأمن في مدن الأنبار". ولكن تأهيل سلك الشرطة واستعادة سلطته القانونية من جديد بات أمرا معقدا، فآلاف من عناصر الشرطة السابقين ممن يمتلكون خبرة في العمل اصبحوا منبوذين، اما عناصر التشكيلات العشائرية المسلحة الجديدة فغير مؤهلين لدمجهم في جهاز الشرطة لان ولاءهم لزعماء عشائر متناحرين، كما انهم لا يخضعون للشروط القانونية التي تفرضها وزارة الداخلية. واليوم هناك ثلاثة تشكيلات مسلحة تدير الشؤون الأمنية في الأنبار، قوات عسكرية برية من الجيش لا تمتلك خبرة في إدارة المدن، وقوات شرطة جديدة محدودة التأثير ولديها مهام قتالية برية أكثر من مهام شرطية محلية، وأخيرا مقاتلو العشائر وهم القوة المسيطرة على الامن داخل المدن، وغالبا ما تكون عشيرة واحدة هي التي تسيطر على العشائر الأخرى في كل مدينة. في المحصلة فإن الأمن في المدن المحررة لا يستند على هيبة الدولة وقواتها الرسمية، بل على هيبة ونفوذ العشائر او الفصائل الشيعية، وعلى السكان المحليين التعامل مع زعماء قبائل وقادة فصائل مسلحة لطلب الأمن والاستقرار لا من مراكز شرطة ومحاكم قضائية. ومن أهم المؤشرات على أن الأمن الذي تحقق في المدن المحررة هش ومعرض للانهيار هي قدرة "داعش" على مهاجمة هذه المدن مجددا، خلال الأسبوعين الماضيين تمكن المتطرفون من مهاجمة بلدة الشرقاط شمال صلاح الدين، وهاجم "داعش" أيضا مدينتي الرمادي والفلوجة والعامرية في الانبار بواسطة السيارات المفخخة. أزمة الشرعية السياسية ابرز نتائج الحرب على "داعش" فقدان السلطات المحلية شرعية الحكم، فالسكان الذين اضطروا الى ترك منازلهم بمئات الالاف الى مخيمات النازحين هربا من بطش المتطرفين، والذين اختاروا البقاء في منازلهم وعاشوا أياما صعبة في ظل حكم متطرف، يحمّلون اليوم المسؤولين المحليين مسؤولية ذلك. ومن المفيد اجراء انتخابات بعد الاحداث الكبيرة لإنهاء أزمة الشرعية خصوصا وان قوى سياسية جديدة بدأت بالظهور مقابل انهيار القوى السياسية بعدما تراجعت شعبيتهم كثيرا، ولكن الحكومة الاتحادية ومفوضية الانتخابات لم تعد قادرة على إجراء الانتخابات في موعدها المقرر بداية عام 2017. وبسبب ذلك سيستمر المسؤولون الحاليون بالحكم في مدن من دون تفاعل السكان معهم، في المقابل لن تكون مخرجات القرارات المتخذة من هؤلاء المسؤولين حكيمة وإنما ذات منحى شخصي للحصول على منافع مالية لأنهم يعيشون آخر أيامهم في الحكم. وبدلا من ان يحاول المسؤولون المحليون في الأنبار، صلاح الدين، نينوى، وديالى، استعادة ثقة السكان المحليين والتواصل معهم في محنتهم الحالية والتوحد معا للضغط على الحكومة الاتحادية في بغداد والمجتمع الدولي للحصول على الأموال والمساعدات، فأنهم انخرطوا في صراعات سياسية اشد مما كانت عليه قبل سنوات. الاسبوع الماضي تمكن محافظ الانبار صهيب الراوي وهو من "الحزب الاسلامي" البقاء في منصبه على الرغم من ان اعضاء مجلس المحافظة بقيادة رئيس المجلس صباح كرحوت صوتوا مرتين على طرده من الحكم، فيما تمت اقالة كرحوت من منصبه، وهذا مثال على عمق الازمة السياسية في المدن السنية. والحال نفسه في صلاح الدين، فالحكومة المحلية الحالية ليست هي نفسها قبل عامين، اذ ان مشاركة الفصائل الشيعية المنضوية في "الحشد الشعبي" في القتال ضد "داعش" وانقسام العشائر والتنافس على النفوذ والعقود المالية افرز قوى سياسية جديدة تمكنت من طرد المحافظ رائد الجبوري من منصبه ليصبح زميله السابق وعدوه الحالي احمد الجبوري هو المحافظ الجديد. ارتفاع نسبة البطالة تتعمق المشكلة في المدن المحررة بسبب الأزمة المالية التي تعصف بالعراق منذ 2015 اثر انهيار اسعار النفط العالمية، والخطر الاكبر هو عدم قدرة الحكومة على توفير وظائف للسكان المحليين لانتزاع ولائهم، وعلى ما يبدو ان الوضع سيبقى على حاله خلال العامين المقبلين. ان تحرير الأنبار وصلاح الدين وبعض بلدات نينوى يمثل انجازا عسكريا جيدا ولكنه ذو تكاليف باهظة، فمع انجلاء غبار المعارك الشرسة تكشفت مشاهد الاف من المنازل ومشاريع البنى التحتية من الطاقة والماء والجسور وقد دمرت تماما، ومن الصدف المؤسفة ان تتزامن ازمة "داعش" مع ازمة مالية حادة تعاني منها الحكومة العراقية. ووفقا لبيانات وزارة التخطيط العراقية فان نسبة الفقر في الأنبار وصلاح الدين ونينوى ارتفعت الى 41% في عام 2014 بعد احتلالها من قبل "داعش"، بينما كانت النسبة 22% قبل 2014، وهو مؤشر خطير الى تزايد البطالة بين الشباب الذين قد يتم استغلالهم مجددا من جماعات متطرفة. اما على مستوى الدمار تقول وزارة التخطيط ان حجم الاضرار الناجمة عن العمليات الارهابية للمدة 2004-2016 بلغ (36) تريليون دينار عراقي، 61% منها حصل خلال 2014-2015-2016، وتؤكد الوزارة على ان العراق لن يستطيع وحده تعويض الخسائر من دون عقد مؤتمر دولي لاعمار المدن المدمرة. عاد السكان المحليون الى مدنهم ومنازلهم المدمرة بعد شهور صعبة قضوها في المخيمات، ووجدوا أنفسهم بلا وظائف او اموال لبناء مساكنهم مجددا بعدما خسروا مدخراتهم ومشاريعهم الصغيرة خلال أزمة النزوح، بينما لم تعد الحكومة قادرة الآن على توفير فرص عمل جديدة. في صلاح الدين اضطرت سلطتها المحلية قبل شهور إلى الغاء قرارات تعيين العشرات من الموظفين في المحافظة بسبب الازمة المالية، كما ان السلطة المحلية تشكو من عدم قيام الحكومة العراقية بصرف حصتها الرسمية من الموازنة المالية السنوية. ويقول نائب رئيس مجلس محافظة صلاح الدين احمد العزاوي ان "الحكومة الاتحادية صرفت 1% من حصة صلاح الدين من الموازنة خلال النصف الأول من العام الحالي، بينما نحن في امس الحاجة الى الأموال من باقي المحافظات المستقرة بسبب الدمار الذي تعرضت له البنى التحتية بسبب العمليات العسكرية". إن الواقع السياسي والامني والاقتصادي في المدن المحررة خطير، فمساعي حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي إلى فرض الاستقرار محدودة، وعلى المجتمع الدولي المشاركة في دعم العراق خلال الشهور المقبلة سياسيا واقتصاديا ودعم الشباب لمنع التنظيمات المتطرفة من استغلالهم. (نقاش)