الخطاب الوعظي لدينا بُني على ثقافة الوسوسة والشك والريبة، وقياس الكثير من أمور المجتمع من زاوية الشهوة واللذة المحرمة الشرطي السيئ يظل شرطيا وأفعاله الفردية لا تمنع قائدي المركبات من إلقاء اللوم على نظام المرور. والطبيب المخطئ يظل طبيبا وأخطاؤه التي تعد فردية لا تمنع المرضى من إلقاء اللوم على وزارة الصحة. هذا دأب الناس دوما، يلجؤون إلى التعميم أمام الأخطاء الفردية، والتعميم كما يتفق العقلاء ليس بالفعل العقلاني إنما هو عاطفي خاطئ، وهنا بيت القصيد، إن الإنسان فور تلقيه صدمة من أي نوع ستداهمه لحظات عاطفية يستثمرها غالبا في الانفعال لا في عقد المقارنات بين ما هو خاطئ وصحيح، وهي لحظات عاطفية مؤقتة وستمر بكل آثارها وانفعالاتها، ليعود الإنسان بعدها إلى رشده مدركا أن الخطأ فردي لا يمثل الكل، لكن الرشد والعقلانية هنا لا تعني الاكتفاء بترديد عبارة "مجرد خطأ فردي" وقبولها كنتيجة نهائية، إنما تعني البحث عن أنسب الطرق لضمان عدم تكرار مزيد من الأخطاء الفردية مستقبلاً، أي أن العقلانية تعتبر انتقالا من لوم الكل على خطأ فردي إلى البحث في ثقافة الكل وقوانينهم عن أي خلل سمح، أو قد يسمح بحدوث أخطاء فردية. مثلاً، حين يخرج أحد الشباب ليمارس التفحيط وأذية الآخرين فإن الناس في الغالب لن يقولوا بأن أفعاله مجرد أخطاء فردية لا تمثل إلا نفسه، إنما سيتحدثون فورا عن تربيته داخل البيت، وقد يتطور الأمر للحديث عن أسلوب التربية في المجتمع ككل، وهكذا نجد أنه أمام أفعال فردية لشاب مستهتر قد يصل الأمر إلى مراجعة لأنماط التربية داخل المجتمع ككل، والهدف هنا هو تقبيح الفعل اجتماعيا لا الفاعل، إنها محاولة المجتمع للبحث عن الأخطاء التربوية التي سمحت بمثل هذا الاستهتار. محاولة تبدأ في ساحة العاطفة يعتريها الخطأ ثم تنتقل لساحة العقل، والعقل يحث دوماً على البحث عن مسببات الخطأ الفردي داخل المنظومة ككل، بينما الحُمق وقلة العقل يحثان على الاكتفاء بعبارة "مجرد خطأ فردي" كتبرير نهائي وعلى الجميع القبول به! حسناً، بالأمس خرج علينا أحد الدعاة ليقذف ويشكك ويتلفظ بألفاظ المفترض ألا يتم ذكرها داخل المسجد احتراما لقدسية المكان، خرج متحدثا عن جمع غفير من أبناء المجتمع وبناته الذين يعملون في القطاع الصحي، كيف أن من يرضى لأخته وزوجته أو ابنته أن تعمل في هذا القطاع المعني بصحة الإنسان فهو معدوم المروءة والرجولة! وأن من يعمل في هذا القطاع من الرجال فالغالب أن فيه مياعة ونعومة، ثم عرج في حديثه عن الابتعاث وكيف أن ابتعاث الفتاة للدراسة في الخارج يميت الغيرة والحمية في قلب زوجها أو أخيها أو والدها! ولا شك أن هذا الداعية لا يمثل إلا نفسه، وآراؤه الخاطئة لا يحملها كل الدعاة، لكن هذا لا يعني أن مثل هذه الآراء هي بدع من القول، أو أنها مجرد شطح فكري فردي، بل إن لمثل هذه الآراء الفردية أساسات في الثقافة الدينية والأخلاقية للمجتمع، أساسات قد تم تغليفها بغلاف ديني أخلاقي كي تلقى الرواج والقبول. هنا لا يصح الاكتفاء بالقول إن آراء هذا الداعية هي مجرد آراء فردية لا تمثل كل الدعاة، رغم صحة هذا القول تماما، بل يجب البحث عن مسببات مثل هذا الخطأ الفردي ودوافعه داخل الخطاب الوعظي ذاته. فالملاحظ أن الخطاب الوعظي لدينا قد بُني على ثقافة الوسوسة والشك والريبة، وقياس الكثير من أمور المجتمع من زاوية الشهوة واللذة المحرمة، وأن المرأة فتنة في كل حالاتها، إن نامت أو استيقظت أو عملت أو تعلمت أو ذهبت لتتسوق أو حتى ترفه عن نفسها! وأن الشاب تغلب عليه الرعونة والطيش والتعطش لنهش لحوم الفرائس إشباعا لنزواته، إن الاعتراف بالخطأ نصف العلاج، مثل هذه الثقافة الوعظية هي ما تسمح بخروج دعاة لا ينظرون لبقية الخلق إلا أنهم مجرد أنصاف سفلية فقط، أنصاف تتحرك لتتغذى وتُشبِع شهواتها البهيمية بأي طريقة كانت. مثل هذه الثقافة الموجودة والملاحظة هي ما تسمح لكل باحث عن الأجر -هاويا كان أم محترفا- بأن يحمل على عاتقة همّ ردع وكبح جماح الفتن والشهوات المنفلتة في كل مكان، فيردع ويكبح بالترغيب والترهيب وبالكذب والخداع إن لزم الأمر، فإن لم تتحقق النتيجة المرجوة فلا بأس بالشتم والقذف والتشكيك طالما الغاية هي التهذيب والإصلاح. ختاما، أن يكتشف المرضى في أحد المستشفيات أن طبيبا يمارس مهنته بشهادة مزورة، فمن غير المعقول أن تتعذر وزارة الصحة بقولها: إن هذا الطبيب لا يمثلنا، وألا علاقة لنا بأخطائه الفردية، رغم صحة هذا القول، فالطبيب لا يمثل الوزارة، وأخطاؤه فعلاً فردية، لكن الملام أولا وأخيرا هو أنظمة وقوانين وزارة الصحة التي سمحت بمثل هذا التلاعب، وعلى نفس المنوال، أن يخرج داعية ويعتلي المنبر متحدثا بألفاظ جارحة، مشككا همازا لمازا، فمن غير المعقول أن تتعذر وزارة الشؤون الإسلامية بقولها: لكننا لم نمنحه التصريح بالدعوة! الخلل أكبر من وجود التصريح من عدمه، أكبر من مجرد خطأ فردي، الخلل أن بيئة الدعوة تسمح لكل من لا عمل له بأن يمتهن الدعوة.