لم يقنع أحداً منع أغاني فيروز في كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية. القرار الذي اتخذه ونفّذه مجلس فرع الطلاب الذي يسيطر عليه «حزب الله»، استفزّ طلاب الجامعة وأساتذتها واللبنانيين والعرب. ثم لم يقنع أحداً تراجع «المجلس» نحو القول إن أغاني فيروز مباحة في القاعات الخاصة وليس في الساحة العامة للكلية. هذه عينة من محاولات هدم الجسور بين اللبنانيين وضرب قوة لبنان الناعمة التي استفاد منها «حزب الله» في أزماته واستند إليها في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها نقطة وطنية جامعة. الآن، لا اهتمام بالمشترك اللبناني طالما تمدّد «الحزب» إلى سورية وأبعد منها، ولكن... كيف للبنانيين أن يربحوا أرضهم التي احتلتها إسرائيل فيما يخسرون وطنهم الجامع بقوته الناعمة التي حصّنته وتحصّنه من التفكُّك والانهيار، خصوصاً مع تسونامي التطرُّف بنسختيه الشيعية والسنّية الذي يجتاح المشرق العربي؟ القوة اللبنانية الناعمة ولدت جزئياً مع مجلس الإدارة في متصرفية جبل لبنان بين العامين 1864 و1914، واكتملت ولادتها مع دولة لبنان الكبير في عشرينات القرن الماضي حين تكامل الاعتراف بين الطوائف وإعلان حرية الفكر والقول والعمل. وتجلّت القوة الناعمة في الإنتاج الفكري والأدبي والفني والجامعات والمصارف وأجهزة الإعلام والأحزاب والمستشفيات. وبهذا وغيره أُتيح للرجل والمرأة في لبنان حرية التعليم والسكن والسفر والتملُّك، وفي ما يتعلق بالطوائف كان حضورها السياسي وفق أحجامها، لكن حضورها الاجتماعي يتحقّق عبر النُّخب لا عبر النواب المنتخبين. وكانت الطائفية السياسية تكتفي بالاعتراف المتبادل ضمن حدود معلومة لا تتعداها إلى اجتياح غيرها أياً كانت طبيعة الاجتياح. طائفية سياسية اعتبرها الدستور الذي وضعه ميشال شيحا موقتة في انتظار اكتمال المواطنة العابرة الطوائف، واستمر الموقت حتى صار دائماً وتكرّس في دستور «الطائف» الذي أنهى حرباً أهلية ملتبسة. الآن، بعد نمو العصبيات وطغيانها في العمل السياسي وتراجُع الاقتصاد واهتزاز الاستقرار، تذهب الطائفية، خصوصاً مع «حزب الله»، إلى انكفاء اجتماعي وتحجُّر عقائدي في نوع من الغيتو منغلق على الطوائف الأخرى ومتجاهل المشتركات الثقافية للبنانيين ليكتفي بالحضانات الصغيرة وامتداداتها العقائدية خارج الحدود. بذلك يمكننا تلمُّس قيادة مجلس «حزب الله» الطلابي في الجامعة اللبنانية تجاه فيروز وما يماثل فنّها في الغناء والمأثورات الشعبية والفولكلور، فهذه القيادة والذين تقودهم يألفون أناشيد شبه دينية عراقية تنتمي إيقاعاتها إلى العصر السومري، فيما يتقصّدون قطع الأواصر مع فنون يألفها أهلهم ويتشاركون سماعها أو ممارستها مع لبنانيين من طوائف أخرى. وفي العودة إلى الحجة غير المقنعة بإحالة أغاني فيروز على قاعات خاصة خارج ساحة الجامعة، يتساءل المراقبون: أين هي القاعات الخاصة في القرى والبلدات والمدن اللبنانية حيث يسيطر «حزب الله» ليتاح لسكانها المطرودين من الساحات العامة ممارسة فنونهم الشعبية المتوارثة والتي تنتمي إلى أرض مشتركة مع طوائف أخرى تجاورهم، فيشعر الجميع أنهم أبناء وطن واحد وليسوا جاليات تحتاج مترجمين لتتفاهم. هذا الكلام صحيح باستثناء واحد هو «مهرجانات بعلبك الدولية» التي يمررها «الحزب» وإن كانت خارجة عن مألوفاته العراقية وأحياناً الإيرانية. إذا كان صحيحاً قول رئيس «المجلس» إن «70 في المئة من الطلاب في كلية الهندسة لا يستمعون إلى الأغاني»، والمقصود أغاني فيروز، فنحن أمام اكتمال «الغيتو» وانقطاع المشترك الفني بين طلاب الجامعة اللبنانية. هذا اللبنان «الجديد» يتحقق عبر حرب ثقافية في الداخل يخوضها المتشدّدون الدينيون، ومنهم «حزب الله»، بمحو الذاكرة واحتقار احتفاليات العمل اليومي في الريف والمدينة حيث الإيقاع المشترك للمنتجين أياً كانت معتقداتهم. كأن المتشدّدين يعتبرون الحياة اليومية معطىً خارجياً لا علاقة له بالمكان الواحد الجامع. ويتجلى ذلك المعطى في رواتب تأتي من خارج الحدود في مقابل تلبية طلبات المصدر حتى في اختيار الأغاني والأناشيد. هل انتصرت السلطة الدينية في إيران على الموسيقى في بلدها ليمتد انتصارها إلى لبنان؟ أشك في ذلك، ويمكن النظر إلى المشكلات حول الفولكلور باعتبارها دعوة إلى الخروج من الانتماء الوطني نحو عولمة دينية وعدمية ثقافية يرفضها مواطنو الدول الإسلامية والعربية وليس اللبنانيون وحدهم، لأنهم بشر متعدّدو الاهتمامات والرغبات وليسوا فقط جنوداً أحياء أو شهداء.