< حتى وبعد أن اقتصر دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على تقديم البلاغات بالمخالفات من خلال آلية عمل محددة تعطي ذوي الصلاحيات، كالشرطة ومديرية مكافحة المخدرات دورهما الأكمل في ممارسة عملهم، مع التزام الهيئة بعدم إيقاف الأشخاص أو التحفظ عليهم أو مطاردتهم أو حتى طلب وثائقهم أو التثبت من هوياتهم، بحسب التنظيم الصادر عن مجلس الوزراء في 11 نيسان (أبريل) 2016، إذ يعد هذا الأمر محموداً في شموليته، إلا أن بعض الوقائع والأحداث تعيد إلى السطح كرّة أخرى نبرة السخط جرّاء تغييب هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من المناسبات، فلم تعد لها القوة الكاملة لممارسات مهماتها السابقة. في كل مرة تطالعنا مواقع التواصل الاجتماعي بما يشبه الاستبشار بخبر إعادة صلاحيات الهيئة إليها كاملة، وأبدت بعض وسائل الإعلام حتى تلك المحسوبة على الجناح الليبرالي شيئاً من المهادنة للهيئات، مشددين على دورها في ضبط المجتمع، خصوصاً في الأماكن العامة، ومع هذا فإنه لا يزال رهط من الناس يطالب بإلغائها تماماً، لانتفاء الحاجة إليها مع وجود رجال الأمن، وفي كل مرة تقع واقعة كالتحرش وغيرها «يحمى» وطيس هذا الخلاف، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي ما بين هؤلاء. جاء قرار مجلس الوزراء منظماً لدور «الهيئة» ووضع آليات العمل لها واستقر الأمر على ذلك، ولعل هذا جزء من تحول الدولة في سياساتها المتضمن في برنامج 2030 منها إنشاء هيئة ترفيه، وقد تكون تجربة الأشهر السبعة الماضية كافية لتقويم عملية التحول في نظام الهيئات، ولنبدأ من حقيقة ثابتة لا يمكن نكرانها أو التغافل عنها، هي: أن بلادنا قامت وتأسست وفق أطر شرعية سلفية محضة، باركها الناس بلا استثناء شرقاً وغرباً، لما أبدته من قيم التسامح والتصالح والتوفيق والعدل بين الناس، ولعل من ركائز هذه السياسة الشرعية هيئة الأمر بالمعروف التي تأسست قبل أكثر من 70 عاماً، إذ تعد أول هيئة سعودية تتعاطى مع المجتمع بشكل مباشر، واكتسبت احترامها من بسطاء الناس وعوامهم قبل متعلميهم وعلمائهم، بذلك استتبت الآراء حولها. لم يكن المجتمع يجرؤ على انتقاد أعمالها التي كانت تنحصر في التنويه على الصلاة وحث الناس إليها، ولربما دفعهم إليها بالقوة، وقد توقع العقوبات الصارمة على كل متخاذل متخلف عنها، وقد قيل إن رجالاً هجروا بلدانهم هرباً من مواجهة عقوباتهم المشمولة بالفضيحة، عدا ذلك فلم تكن الهيئة معنية بخصوصيات الناس، ولا تتبع عوراتهم لفضحها. المشكلة الكبرى المعقدة التي أوقعتها في مغبة تصرفات غير حميدة لا تليق برجال دين محسوبين على هيئة الأمر بالمعروف كانت نتيجة انفجار البلد جغرافيا وديموغرافيا، واتسعت بما لا يستوعبه عقل الإنسان، ومن هنا نشأت أزمات المجتمع، ونتيجة لها أصبح متورطاً في أزمة وعي ضاغط جعلته أكثر عرضة للانزلاق والتشظي إلى أبعد من مسألة الحلال والحرام التي كانت قبلاً واضحة عياناً وضوح الشمس، يراها في أخلاق آبائه وأجداده، ويسمعها من أقرب الناس إليه علماً محكماً لا شبهة فيه. هيئات الأمر بالمعروف بوصفها جزءاً من هذا التحول في بنية المجتمع وما لحق به تبدل مفاهيمي ومعرفي، وجدت نفسها في أزمة مشابهة لأزمة المجتمع برمته، وفي استشعار خاص أمْلت على نفسها جزءاً من المهمات التي يجب أن تقوم بها والأساليب التي تتبعها، بمعنى أنها بما كانت تكتسبه من مباركة اجتماعية وموافقة حكومية باتت هي القيّمة الدينية العليا المصطفاة لتقويم أخلاق الناس الموجهة لسلوكهم قسراً. هنا حدث الصدام، صدام بين رافضين لوجودها جملة وتفصيلاً، فلا يرون فيها سوى أنها من تراثيات الزمن القديم، يمكن تمثيل أدوارها في إطار احتفاليات تستعيد الماضي في المهرجانات العامة، كالكتاتيب والألعاب القديمة، وآخرين رافضين للأساليب المتبعة والصلاحيات المتاحة لهم كالتلصص والمطاردة والهجوم والتربص، مما ورطها بأرواح أزهقت على خلفية مطاردة غير مسؤولة أو ضرب مبرح، بينما يقف قطاع كبير من المجتمع إلى صف الهيئات ويباركون لها جهودها جملة وتفصيلاً، ولسان حالهم يقول: «امشي عدل يحتار عدوك فيك»، منصّبين أولئك على قمة هرم أعداء الهيئة، وعدوهم هو عدو لله ولرسوله بلا أدنى شك. هذه السنة شهدنا اختلافاً في ديناميكية الهيئات وممارساتها، بمعنى أنها أصغت سمعاً وطاعة لولي الأمر في قراره المنظم لدورها، مما جعل الناس يتحركون بحرية، وكأن لهذه الحرية المكتسبة أخيراً إيجابيات وسلبيات وهذا أمر طبيعي، إلا أنه من غير الطبيعي أن تحدث بعض التعديات كالتحرش المكشوف مثلاً ومضايقة الناس والتعدي اللفظي، هنا نحتاج إلى إعادة حساباتنا جيداً بعدما فشلنا في ترويض أفكارنا لقبول التحول التدريجي نحو فضاءات أوسع من الحرية، ومعه عجزنا عن ضبط سلوك أبنائنا في ما يتفق مع الذوق العام، ولعل الوقت اليوم بما تشهده بلادنا من تطورات في النظم والأساليب الإدارية أن نتجاوز شكل «الهيئة» الكلاسيكي التقليدي المرتبط بالتخويف أو القمع المباشر، ونتعاطى معها بوعي عصري، على اعتبار أنها معادل موضوعي لشرطة الآداب في أي دولة من دول العالم، لديها صلاحيات الضبط والإحضار بصفتها جهة تنفيذية متى وقع المحظور، ولكن قبل ذلك يجب على الجهات التشريعية تحديد أنواع المحظورات وأشكالها، مع سن قوانين لكل حالة على حدة، أكبرها التحرش والابتزاز وأقلها التعدي اللفظي وإساءة حرمة الطريق وآدابه مع توصيف دقيق لها، أعني آداب الطرقات وحرماتها والعقوبات المقررة لها، بهذا تكون «الهيئة» التي لن نختلف على تسميتها حتى لو أحيلت إلى «شرطة الآداب» أكثر وضوحاً في عملها وأكثر قابلية اجتماعياً. صدقوني، مجتمعنا بسيط جداً قابل للتشكّل، ولا أدل على ذلك من نظام الجرائم المعلوماتية الذي جعل الناس حذرين من فتح أي ملف يرِد إليهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وساعة يقف النظام أو القانون الصارم في وجه المخالفين لن نحتاج إلى وقوف رجال الحسبة في الطرقات والأسواق لتتبع أخطاء الناس وزلاتهم. almoziani@