عام 1274 قبل الميلاد وفي بلدة قادش الواقعة على ضفاف نهر العاصي بسوريا (تل النبي مندو حالياً)، حدثت معجزة، فرغم تقطع السبل بجيشه وانقطاع الاتصالات بقواته بسبب خلل في الاستخبارات، تمكن رمسيس الثاني فرعون مصر لوحده من هزيمة جيش الحيثيين وتدمير كل عرباتهم البالغ عددها 2500 عربة كاملة دون أن تفلت منه واحدة لم ينل منها. ثم أتبع الفرعون المنتصر ذلك بإلقاء أعدائه الكثيرين وإغراقهم واحداً تلو الآخر في نهر العاصي قبل أن تأخذه الرأفة بملك الحيثيين الذي جثا يتوسل طلباً للرحمة ياله من نصر مؤزر، قصة انتصار كاملة خلطها الفرعون بتوابل من نسج خياله. تقرير نشرته صحيفة البريطانية، الثلاثاء 6 ديسمبر/كانون الثاني 2016 عقد فيه كاتبه، الباحث في جامعة كامبريدج، مقارنة بين أساليب فرعون الزمن الغابر وترامب في زمننا هذا، حيث رأى أن الاثنين يتشابهان في استخدامهما للضجة والزخم الإعلاميين لتحقيق مآربهما ونشر دعايتهما. رواية انتصار فرعون إن رواية قصة انتصار الفرعون أعلاه موجودة نقرأ تفاصيلها في نصين مكتوبين أملاهما الفرعون رمسيس الثاني وأمر بكتابتهما وهما السجل الرسمي (كما يسمى) وقصيدة قادش الملحمية التي كتبها كاتب ورق البردي سالير الثالث. بعد حملة قادش استغل الفرعون هذين النصين لتمجيد نفسه كي يبدو بمظهر القائد المظفر ذي الانتصارات العتيدة الذي يهابه الأعداء وتحميه الآلهة. ظهر هذان النصان بشكل أساسي على جدران المباني الملكية مثل المعابد والنصب التذكارية في كل من أبو سمبل والكرنك والأقصر وأبيدوس العرابة، إذ نقشت هذه النصوص وحفرت في جلمود الصخر تخليداً لذكرى الانتصار، ورافقتها رسومات تفصيلية صخرية منقوشة مكّنت حتى أغلبية الشعب الأمية من فهم ما تحدثت عنه الكتابات. كذلك ذاعت القصيدة مكتوبة على ورق البردي، ما جعلها تنتشر أبعد من حدود المباني الجامدة في مكانها. بهذا الشكل جهد رمسيس كل جهده كي ينشر خبر انتصاره بين كامل الرعية بدءاً من أصغر فلاح يحملق في جدران المعبد وحتى نبلاء البلاط الذين يلهون بالشعر. بالنظر إلى أعداد نسخ الرواية الرمسيسية التي أُنتِجت ونشرت وبقيت حتى يومنا هذا فإننا لا نتفاجأ من أن تلك الرواية هي أشهر سرد لأحداث موقعة قادش الشهيرة عام 1274 قبل الميلاد. ولكن كاتب التقرير يقول إن هذا مؤسف لأننا بدراسة فاحصة متبصرة أكثر في الأدلة الأثرية والنصوص الأقل شهرة يتكشّفُ لنا أن رواية رمسيس الرسمية تلك ليست مجرد مبالغة، بل إن الحقيقة كانت العكس تماماً: فالرواية الرسمية رواية مختلقة من بابها لمحرابها زيفت الهزيمة النكراء لتجعل منها نصراً حاسماً! الرواية الحقيقية ففي روايته زعم رمسيس أن نصره فرض هيمنة مصر على بلاد الشام، لكن لو كان الأمر كذلك لكنا وجدنا آثاراً للحكم المصري الفرعوني في مواقع الشام الأثرية العائدة للقرن الـ13 قبل الميلاد، كتحف أو مخطوطات ونقوش على الطراز المصري مثلاً. لكن المواقع الأثرية الشامية التي تعود إلى تلك الحقبة لا تتوافر فيها سوى نصوص الكتابة المسمارية فقط التي تعود للحيثيين وبلاد الرافدين، كما أن الأواني الفخارية والآثار العمرانية وكافة الأدوات والأشياء الدالة على ثقافة البلاد هناك جميعها ذات طابع يتنافى جملة وتفصيلاً مع ثقافة مصر، فإن كان المصريون فعلاً قد فتحوا تلك البلاد وغزوها، أين مظاهر وآثار هذا الغزو الملموسة؟ لكن غياب الأدلة هذا ليس بحد ذاته دليلاً قطعياً ينفي وجود هذه الأدلة من أصلها، خاصة أننا نتحدث عن منطقة أثرية معروف عنها التشابك والتعقيد، ولعل أكبر دليل أثري يدلنا على أن المعركة لم تكن حاسمة لصالح الفرعون هو معاهدة مصرية-حيثية عقدها الطرفان عام 1259 قبل الميلاد، أي بعد موقعة قادش بـ15 عاماً؛ نجد هذه المعاهدة محفوظة باللغة المصرية على جدران معبدين في مدينة طيبة (الأقصر حالياً)، وباللغة الحيثية أيضاً على لوح بالكتابة المسمارية محفوظ في عاصمة الحيثيين (حتوساس) وسط تركيا (بوغاز كوي حالياً). وترسي هذه المعاهدة أسس الصداقة بين الدولتين اللتين تعترف كل منهما بأن الأخرى ند نظير لها وتنص على أن منطقة قادش تبقى خاضعة للسيادة الحيثية. وعلى ما يبدو أن رمسيس لم يرد لفت الأنظار كثيراً إلى هذه المعاهدة، فنسختاها الباقيتان حتى يومنا هذا ضئيلتان بالمقارنة مع كم النسخ العديدة للانتصار المزعوم المحفوظة في السجل الرسمي وفي قصيدة قادش الملحمية. حتى أن طريقة حفظ هذه المعاهدة لا تكاد تلفت النظر مطلقاً، فهي كتلة نصية ضخمة ليس بها ما يشد العين أو الانتباه. مع ذلك ليس هذا دليلاً قاطعاً كاملاً على هزيمة مصر في قادش، فبالنظر إلى فارق الزمن البالغ 15 عاماً، لعل ما حدث أن رمسيس فعلاً انتصر ثم من بعدها فشل في المحافظة على النصر الذي غنمه. أخطر دليل ولكن الدليل الأخطر بالنسبة لمعركة قادش ذلك موجود في أرشيف محفوظات بمدينة حتوساس يضم 100 رسالة خاصة تبادلها الفرعون رمسيس مع نظيره الحيثي حتوسيلي الثالث؛ كتبت المراسلات باللغة المسمارية الأكادية التي كانت اللغة العالمية في ذلك العصر. إن هذه الرسائل السرية التي أبقيت بعيداً عن أعين العامة والتي كتبت بعد توقيع المعاهدة تعطينا لمحة فريدة عن المراسلات الصريحة المباشرة بين الحكام. ففي إحدى الرسائل يسأل حتوسيلي رمسيس لماذا يصر الأخير على أن قادش كانت نصراً له رغم أن الحيثيين "ألحقوا الهزيمة بملك مصر"، فيرد عليه رمسيس معترفاً بأن المعركة كانت صعبة ويقول بكلماته "لقد كانت عداوة من أحد الآلهة، فهو الذي تسبب لي بمشاكل." وهذه طبعاً ليست أبداً طريقة من يتحدث عن نصر محقق. كذلك يعطينا أرشيف مدينة حتوساس فكرة أفضل عما حدث فعلاً في موقعة قادش؛ ففي رسالة رمسيس المذكورة أعلاه والتي تلقاها حتوسيلي يقول الفرعون أنه كان قد سمع من بدويين اثنين في وقت باكر من الحملة العسكرية أن الجيش الحيثي يبعد مئات الأميال بعيداً، فعمد الفرعون إلى الانفصال عن كتلة قواته الأساسية وتقدم مسرعاً بمجموعة سرايا صغيرة طمعاً بتأمين منطقة قادش قبل وصول الأعداء. لكن تبين لاحقاً أن البدويين خدعا رمسيس لأن الحيثيين كانوا فعلاً قد سبقوه إلى قادش، فوجد الفرعون نفسه في مواجهة براثن جيش عرمرم أكبر وأفضل تسليحاً بعرباته الكثيرة، لكن الفرعون فضل أن يتلافى كارثة المواجهة قبل وصول قواته الرئيسية، فالجيش المصري وصل بإمداداته لنجدة الفرعون، والخسائر توالت وأثقلت كاهل الجانبين. بهذا انسحب المصريون في نهاية المطاف خاوي الوفاض دون الاستيلاء على هدفهم الاستراتيجي وتحقيقه. مازال البحث مستمراً بالطبع إن اكتشاف هذا الأرشيف لا يُغني عن المزيد من البحث وراء أدلة أخرى، فالبحث لم ينتهِ، وما زلنا نترقب النتائج الكاملة للحفريات الجارية في موقع (بر رمسيس) في مصر، تلك البلدة التي كانت عاصمة رمسيس الثاني، فهذا الموقع قد يخفي ويحمل لنا المزيد من النصوص. ثم إن تنوع مصادر الحكاية بين اللغات المصرية والحثية والأكادية وتعدد هذه المصادر بين مصر والأناضول يعنيان أنه قد تكون هناك قطعة مختفية أو حلقة ضائعة في هذا اللغز لعلها تظهر في ميدان التنقيب والحفر أو ربما نجدها منسية مهملة في قعر سرداب في متحف ما. إذاً لا بد من متابعة البحث. دعاية ملكية خلاصة القول أننا عندما نقارن رسائل حتوسلي برواية رمسيس المعتمدة في كل من سجلاته الرسمية وقصيدة قادش الملحمية نجد لأنفسنا نموذجاً فريداً داخل أجواء الدعاية الملكية. فالرواية الملفقة المعدة للاستهلاك الداخلي كانت محض خيال نُسِج حول نواة حقيقة واحدة هي أن الفرعون كان بالفعل أعزل انقطعت السبل به عن جيشه، واجه بالفعل جيشاً عرمرماً من العربات العسكرية فاقت أعدادها قوام قوته الصغيرة، وتمكن من إنزال بعض الخسائر به، ثم هزم. لكن ماذا يهمه؟ فكما علمته السياسة –ومازالت تعلمنا حتى يومنا هذا- إن أضعف الإنجازات وأهزل الإخفاقات قد تتحول إلى أعظم الانتصارات المدوية إن نفختَ ما يكفي من الأبواق وقرعتَ مثلها طبولاً صاخبة. هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Guardian البريطانية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط .