النسخة: الورقية - سعودي لا أستطيع أن أجزم - كغيري - بأن العالم الذي كنا نراه يتجه إلى الهاوية والعالم القابع في عين العاصفة من حولنا أو قريباً منا يتوجه بطريقة ما إلى انفراجة قريبة مرهونة بحزمة قرارات - غربية كانت أو شرقية - كتلك التي تتخذ بإجماع وتحت مظلة غايات ومطامع ما لإسقاط رئيس وتنصيب آخر بقوة السلاح، كما حدث في ليبيا ويحدث اليوم في أوكرانيا، وحتى ما يحدث من فوضى أو حتى تداعيات دراماتيكية على المستويين القريب والبعيد. تلك التي أججت الصراعات بين ذوي القربى. ولن يبلغ بنا ذكاؤنا السياسي وحذقنا مهما حاولنا جاهدين تدوير العبارات المعجمية السياسية لتوصيف الحال في شكل دقيق ونهائي. ومهما بذل المحللون السياسيون المتخصصون والكتاب المقاليون الارتجاليون في سبر أغوار الحقائق، لاستخلاص النتائج، ومهما توغل العاملون في هذا المضمار عميقاً في جسد الأحداث وحفروا طبقاتها السفلى كمنقبي آثار، وقدموا لنا من وثائق وأدلة فلن تقنعنا ألبتة بأنها الحقائق الكاملة لما يدور في عمق الأروقة السياسية النافذة. ففي عالم السياسة لا تكون حفنة من التلميحات السياسية والتعليقات المسهبة حول ظاهر الأحداث جديرة بتأسيس وعي كامل بما يحدث، ولكن ما نستطيع الجزم به أننا متى استطعنا أن نضع أصابعنا على مكامن الوجع نكون قد أصبنا عين الحقيقة، ساعتها تأتي القرارات المصيرية حاسمةً وثقيلة بما لا يدعو للعبث أو اللامبالاة. قد يكون للقدر دوره الحاسم في كشف ما لا يمكن أن يرد على قلب بشر. القدر الذي يتسرب من ثغرات قد لا تُرى بالعين المجردة، وإذ بها تجتاح العالم كفضيحة مدوية، كافتضاح جرائم سجن أبو غريب التي لولا زلة صغيرة جداً قام بها السجانون عندما دفعتهم نزواتهم إلى التقاط صور تذكارية لهم مع سجنائهم المعذبين لما كانت لتحدث، لتسقط الدعاية الكبيرة الفجة المسطورة على لافتة معلقة على حيطان السجن كتب عليها «أميركا صديقة للشعب العراقي كله». إن أكثر ما يمكن أن يُمارَس داخل الأروقة السياسية وردهات صناع القرار هو التمرين الحاذق على التضليل وقلب الحقائق لتبدو أمام الناس - لا نقول السذج إنما المؤمنون - حقائق لا يأتيها الباطل من بين أيديهم ولا من خلفهم، فيصبح التسليم المطلق والقبول الذي لا يعتريه الشك وسيلةً لتمرير الأفكار والقيم المزورة مهما كبرت، وليس أمثل ولا أسهل من المجتمعات المتدينة لتقبل كل ما يأتيها ما دام ملفعاً بعباءة دينية تقارب استشعارهم لها، لذلك وعبر نحو 50 عاماً استطاعت جماعة الإخوان المسلمون من دحرجة كرة الثلج في مجتمعاتنا البسيطة حتى استحكمت على مفاصله، وبات مثقلاً بتبعاته. بدأ حراكه خارج نطاقات رجال العلم وبدأ في تأسيس ما يسمى بالجماعات الحراكية، متخذاً زوايا المساجد والأنشطة المدرسية ثكنات للتعبئة الجماعية التي لا تُعنى بالعلم بقدر ما تؤسس لقاعدة جماهيرية تعبوية، وهو ما يحقق الشعار الأول للجماعة المتمثل في «الإعداد» وهو ما يظهر جلياً في شعارها. لذلك انتخبت لهذه المهمة حفنة من الكتيبات لتحمل جانب الثقل التنظيري لها، ولعل من أبرزها وصايا مؤسسها الشيخ حسن البنا التي حرص من خلالها على وضع الأسس في التفكير والحركة، ولعل من أهمها العناية بالتكوين والتدرج في الخطوات، إيثار الناحية العملية الإنتاجية على الدعاية والإعلانات، التركيز على الشباب بدرجة أولى، عدم البقاء في مكان واحد، بل مسارعة التغلغل في القرى والمدن، فجاءت ملبية تماماً لمتطلبات العمل الحركي، ولاسيما في ما يتعلق بعملية الانضباط، إذ كانت لديهم القدرة على الفرز والترشيح، كما أحكموا عملهم وعلاقاتهم بعضهم ببعض من خلال تراتبية الإمارة والقيادة المحكومة بتقادمية العضو المنتسب إليهم لا بقدر علمه، وهذا مكّنهم من إيجاد شبكة محكمة للجماعة في كل أقطار العالم. ومن هذا المنطلق سارع عدد منهم إلى استكمالات تأسيس الحركة بتأليف كتب أصبحت فيما بعد مراجع لهم، وتقاسمت بعض دول الخليج رموزاً منهم ليصبحوا عرابي الجماعة في هذه الدول من الناحية التنظيرية، واشتُهرت أسماء معروفة لا مجال لذكرها هنا، كما وقف بعض العلماء - ولاسيما هنا في السعودية في وقت مبكر - في شك وريبة من النشاط الإخواني، محذرين بطريقة غير مباشرة من أهدافهم ونشاطاتهم، وإن لم يعلنوا ذلك صراحةً، مخافةَ استثارة القطاعات العريضة لشبابهم التي امتلأت بهم الساحات والبيوت وغصت بهم حتى الصحراء في خلواتهم البرية. في ثمانينات القرن الماضي برزت أسماء سعودية تحمل ثقل التوجيه عبر المنابر والكاسيتات فنقلت العمل من حيز التنظيم والتوجيه إلى حيز المواجهة المباشرة، ظناً منها أن القطاعات العريضة لشباب الإخوان سيناهضون السلطات ويقع صدام محتوم يُحدث ما يمكن أن يعيد توازنات القوى ما بين الرسمي والشعبي، الممثل لها شباب الإخوان بعدما أوجدوا قاعدة شعبية متعاطفة معهم من خلال الكاسيتات والمنشورات والكتيبات الصغيرة، وقد كادت تقع أولى الكوارث الصدامية الدامية لولا الإدارة الحكيمة التي استطاعت امتصاص الأزمة ووأدها قبل وقوعها، ويحدث ما لم يكن في الحسبان. كنا نظن أن أُوار هذه الفتنة الإخوانية هدأ، وأن أولئك الرموز انتهوا إلى تجربة أعادتهم إلى طريق الحق بعد تجربة السجن، إلا أن ما كان يعبِّر عنه أحدهم في برنامج «إضاءات» الذي يقدمه تركي الدخيل كافٍ لتجسيد الحالة، إذ قال: «إنك ستجد نفسك مجبراً للانحناء أمام العاصفة حتى تمر بسلام»، ولم يسأله تركي وماذا بعد؟ هنا نعود إلى ما بدأنا به المقالة أننا لا نستطيع أن نجزم بحقائق الأشياء ما دامت عائمة، وأن الذين يمارسون لعبة السياسة فوق رمال متحركة لا يمكن أن تخمِّن ماذا يمكن أن يفعلوا فيما بعدُ، وليس ثمة ما هو أصدق أنباءً من القرارات الحاسمة التي ستقطع دابر كل حاملي الفتن الموغلين بركوب صهوة الدين لتمرير مخططاتهم، وقد لا نشك ألبتةً في أن مخطط الإخوان الكلي هو إسقاط كل الحكومات من أجل استرجاع دولة الخلافة الإسلامية الواحدة وتحقيق مفهوم الأمة، ولعلهم لم يفكروا بخليفتهم المنتظر الذي سيأتي ماشياً من بين دمار وأشلاء موتى ورؤوس محزوزة. حينها لن يسع خليفة المسلمين وهو يرى فضائح ما اقترفته أيدي أتباعه إلا أن يقول كما قال وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد: «إن الأحداث التي عرضتها الصور في سجن أبو غريب من فعل قلة من الناس خانوا قيمنا ولطّخوا سمعتنا، وسينالون عقابهم على نحو يفخر به العراقيون». * كاتب وروائي سعودي.