الإصلاح السياسى ينبغى أن يقدم على الإصلاح الدينى، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. (١) المنطوق أعلاه أوردته فى مداخلة تعقيبية طلبت منى على أوراق ومناقشات ندوة «إصلاح المجال الدينى» التى عقدت بتونس يومى ٢٨ و٢٩ نوفمبر. وكانت الندوة التى دعا إليها مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بالتعاون مع المعهد السويدى بالإسكندرية قد عالجت موضوع الإصلاح الدينى من مختلف جوانبه. وتم ذلك من خلال مجموعة من الأوراق التى أعدها باحثون من المغرب ولبنان والعراق وسوريا ومصر، واشترك فى مناقشتها نحو ٢٥ باحثا من مختلف الأقطار العربية. وكما هو الحاصل فى مصر، وفى أقطار عربية أخرى، فإن الذين تصدوا للموضوع كانوا خليطا من الناقدين والناقمين والكارهين والمتعاطفين والمستقلين. وهى التنويعات التى عبرَّت عن تيارات المجتمع وأطيافه فى العالم العربى. ولا أعرف إلى أى مدى تأثرت فكرة عقد الندوة بما تردد فى الفضاء المصرى خلال السنتين الأخيرتين بخصوص الدعوة إلى تجديد الخطاب الدينى أو الحاجة إلى ما سمى بالثورة الدينية، إلا أن الذى أعرفه أن أغلب الآراء التى ذكرت أوردتها وسائل الإعلام المحلية، وإن كان حظ الخصوم والكارهين فى الحالة المصرية أوفر منه فى حالة الندوة المذكورة. ذلك أن الصراع الحاصل فى مصر بين السلطة والإخوان فتح شهية كثيرين للخوض فى الموضوع، خصوصا من جانب المخالفين ممن كانت لهم حساباتهم الخاصة وصراعهم الأيديولوجى، وهو ما دعا نفرا من الغيورين إلى ملاحظة أن بعض ما جرى الترويج له بدعوى تجديد الدين استهدف فى حقيقة الأمر إضعافه وتبديده. من المفارقات ذات الدلالة فى هذا الصدد أن الصراع الحاصل فى مصر كان ولايزال سياسيا ولم يكن له علاقة بالشأن الدينى، إلا أن التطورات اللاحقة التى برز فيها دور جماعات العنف وعلى رأسها داعش وأخواتها أحدثت انعطافة فى الاشتباك أدت إلى تراجع البعد السياسى ثم تجاهله وإبراز العامل الدينى والتركيز عليه. يذكر فى هذا الصدد أنه فى ندوة تونس كان شبح القاعدة وداعش مخيما على خلفية أغلب المناقشات والأوراق، وهو ما دفعنى إلى تسجيل هذه النقطة، والقول بأن حديث البعض فى الموضوع أعطى انطباعا بأن التاريخ الإسلامى بدأ بالقاعدة وداعش، الأمر الذى يعنى أن الإسلام بات هو المشكلة. وهى ذات الفكرة التى يرددها غلاة اليمينيين هذه الأيام فى ظل الإدارة الأمريكية الجديدة وفى بعض الأحزاب اليمينية الأوروبية. (٢) ما سبق لم يكن جوهر ملاحظتى، لأن تحفظى الأساسى تمثل فى الانطلاق من التركيز على الإصلاح الدينى وتجاهل المشكلة الأكبر والأكثر إلحاحا التى تتمثل فى الحاجة إلى الإصلاح السياسى. لذلك قلت فى التعقيب إن لدى مشكلة مع موضوع الندوة وليس مع محاورها وعناوينها الفرعية. وحين سجلت هذه النقطة كانت فى ذهنى ثلاثة أمور هى: (٣) هذا التمييز بين الإصلاح الدينى والسياسى لم يخطر على بال فقهاء الأصول، الذين اعتبروا أن إصلاح السياسة من مقتضى التدين الصحيح. وأن غاية الرسالة هى إقامة العدل بين الناس، بشقيه السياسى والاجتماعى. وهو ما صرح به النص القرآنى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...» إلى آخر الآية ٢٥ من سورة الحديد. وفى موضع آخر اختزلت الرسالة فى عبارة «إن الله يأمر بالعدل» (الآية ٩٠ من سورة النحل). كما اختزلت فى توجيه للمؤمنين يقول «اعدلوا هو أقرب للتقوى» (المائدة ــ ٨)، وثمة توجيه آخر يحث بنى الإسلام إلى القول «وأمرت لأعدل بينكم» (الشورى ــ ٢٥).. إلى آخر الآيات والإشارات المماثلة التى يحفل بها مرجع العقيدة الأول. هذه الخلفية دعت ابن قيم الجوزية إلى القول فى مؤلفه «إعلام الموقعين» بأن: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد فى المعاش والمعاد. وهى عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها. فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله فى أرضه». كلام ابن القيم ليس اجتهادا خاصا ولا استثناء، لكنه يعبر عن تيار عريض فى الثقافة الإسلامية كاد ينساه كثيرون بعدما احتلت أخبار داعش والإرهاب الأولوية فى وسائل الإعلام وصار الصراع ضد الإرهاب هو الموضوع الأثير لدى أهل السياسة وكثيرين من أهل الرأى، وسارت المؤسسات الدينية فى الركب، بحيث ما عادت تبشر بالاعتدال وتدافع عنه، ولكنها نسيت كل شىء ولم تتذكر سوى خوض المعركة ضد التطرف والإرهاب. ومن ثم صار خطابها معبرا عن توجهات أهل السياسة، وليس عن جوهر الرسالة الإلهية ومراميها. (٤) حين قال الدكتور يوسف القرضاوى إن الديمقراطية مقدمة على الشريعة، فقد كان يستخدم لغة زماننا، رغم إدراكه أن الشريعة عدل كلها كما قال ابن القيم، وأن الحرية هى الوجه الآخر للتوحيد. وهو ما فهمه التيار الرشيد فى الفكر الإسلامى، الذين كان المعتزلة رمزا لهم وعرفوا بأنهم أهل العدل والتوحيد. ومقولة العلامة القرضاوى تتناغم مع ما جاء فى الأثر عن أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ذلك أن السلطان هو من يقيم العدل فى حين أن القرآن يدعو إليه. وفى التجربة التونسية الحديثة موقف جدير بالتنويه فى هذا السياق، ذلك أنه حين حدث خلاف حول النص على مرجعية الشريعة فى الدستور الجديد، فإن حركة النهضة وافقت على استبعاد ذلك النص، وبرر ذلك الشيخ راشد الغنوشى رئيس الحركة بقوله إنه فى الحالة التونسية فإن الشريعة تفرقنا والتوافق الوطنى يجمعنا، ولذلك كان انحيازنا إلى التوافق تجنبا للفرقة التى تعرقل المسيرة الديمقراطية. العقل الأصولى الذى تبنى هذه الرؤية ذهب إلى أبعد، حين فضل الكافر العادل على المسلم الجائر، وهو ما عبر عنه ابن تيمية فى مؤلفه عن السياسة الشرعية. وتم تبرير ذلك باعتبار أن «المسلم الجائر إسلامه له وجوره علينا أما الكافر العادل فكفره عليه وعدله لنا». فى الفقه الحنفى فتوى مهمة نقلها ابن عابدين فقيه الديار الشامية فى القرن الثامن عشر الميلادى تتحدث عن حالة نزاع بين مسلم وغير مسلم على تبعية طفل، المسلم ادَّعى أنه عبد له وغير المسلم ادعى أنه ابن له. فى هذه الحالة فإن القاضى يقضى بضم الطفل إلى غير المسلم، لأن تنشئته على الحرية وإن كانت على غير دين الإسلام أفضل من تربيته فى ظل العبودية مع اعتناقه الإسلام. إذا قال قائل بأن ثمة فتاوى أخرى تناقض ما ذكرت، فليس لدى اعتراض عليه، لأن ذلك يؤيد ثراء الفقه وتعددية الآراء فيه. كما يعنى فى الوقت ذاته أن ما تقول به «داعش» أو ما يتداوله الغلاة باختلاف جماعاتهم ليس كلمة الله ولا رأى الدين، ولكنه مجرد تأويل تم انتقاؤه فى ظروف معينة ونسب إلى الإسلام. وهو ما لا يختلف كثيرا عن محاكم التفتيش التى أقامتها الكنيسة الكاثوليكية لإبادة مسلمى الأندلس فى القرن الخامس عشر، ونسبة جرائمها إلى المسيحية. حين نقل عن ابن تيمية قوله إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة فإن المقولة تحسم المسألة، وتؤيد إعطاء الأولوية للإصلاح السياسى الذى يقيم العدل ويدافع عن قيم الحرية والمساواة والتعددية واحترام حقوق الإنسان، الأمر الذى يعنى أن الجدل المثار فى الوقت الراهن حول أولوية تجديد الخطاب أو الإصلاح الدينى ليس سوى مضيعة للوقت تستجيب لمتطلبات الاستهلاك السياسى، الذى استهدف صرف الانتباه عن الإصلاح السياسى المنشود. إذ به وحده يسود العدل. الذى هو مصدر الشرعية وأساس الملك. هذه التدوينة منشورة على موقع الشروق.. للإطلاع على النسخة الأصلية إضغط ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.