لا نستطيع أن نحدد أو نحكم على مشاعر من نلتقي بهم في حياتنا اليومية، لأن الناس اعتادت أن تخفي مشاعرها، ولا نملُك أن نعلم وضع الإنسان النفسي إن كان مثلاً قد تعرّض لصدمة، أو للتو خرج من مشاجرة، ولا ندري إن كانت تلك الفتاة التي تستقبلنا في البنك كانت قد تعرّضت للضرب قبل أن تباشر عملها وتبتسم في وجه العملاء، ولا ندري إن كان الرجل الذي يخدمنا في تلك الدائرة فقد عزيزاً لديه، لأن الناس عادة لا تحكي معاناتها للأغراب، إلا في أوقات السفر يسردون أكثر من قصة لأغراب مثلهم، ربما لأنهم يعلمون بأنهم حتماً سيفترقون في نهاية الرحلة إلى بلدان مختلفة. ولم أجد سوى مكان واحد يذهب إليه جميع الناس حين ينتابها (الألم)، لذا كثيراً ما أشعر بالهمّ يجثم على صدري في كل مرة أضطر للذهاب للمستشفى، فكثيراً ما تترك تلك الوجوه التي تتألم شيئاً من الكآبة في نفسي لأني أشعر بأن عليّ أن أفعل لهم شيئاً في عالمي الافتراضي، فترى وجوهاً عابسة من الألم، ومدمعة، ووجوهاً صغيرة تبكي و أخرى تصرخ كلها تعبّر عن أوجاعها، يتمالك فيها البعض أنفسهم، ويفقد آخرون السيطرة فتجد من يتأوه، ومن تبكي .. وصلت لقسم العناية المستعجلة محتضنة ولدي الذي أصيب في عينه أثناء رحلته المدرسية لمدينة الألعاب، و بعد أن أنهيت إجراءات تسجيله وشرح حالته للممرضة، توجهت مع حالة الرعب التي تصاحبني إلى مكان الانتظار الذي شُغرت جميع مقاعده، أسندت ظهري على الجدار، واحتضنت ولدي الذي كان يخفي وجهه بين كتفي متألماً بطريقته، أخذت أفكر بغضبٍ شديد في نص الشكوى التي نويت تقديمها في المدرسة التي أهملت حالة الطفل، وكيف لم ينتبه لها الأستاذ المرافق لهم في الرحلة حيث ترك صغيري يُعاني إلى نهاية اليوم الدراسي، تعالت الأصوات الغاضبة في رأسي تحرضني بالاتصال بالمدير وإزعاجه في منزله وصب جام غضبي عليه، حتى شعرت بأن من حولي يسمعونها، قام شاب من مكانه عارضاً علي مقعده ثم تمنَّى لولدي الشفاء وغادر، فقللت تلك اللفتة النبيلة من حدة ازدحام أفكاري وتدافعها، لا يدرك المرء حجم غضب أي أم إلا حين يتعرض أحد أبنائها للأذى، عدت للاستماع إلى الأصوات داخل رأسي تؤكد أن اقتراح الاتصال بالمدير مناسب، فقطع الفكرة صوت آخر يلح بالدعاء أن تمر الإصابة بخير، همس ولدي في أذني بكلمات أحزنتني، فمسحت على رأسه وأخذت أهمس في أذنه بكلمات تُطمئِنه، فمرّ أمامي شخص لم يزعجني فقط تزامن وجوده، بل أثار أشجاناً دفينة في تلك اللحظة المؤلمة، احتضنت ابني دون أن أتحرك وجلست كالتمثال لاعتقادي بأنه لن ينتبه لوجودي حين لا أتحرك في مقعدي، ولكن يبدو أنه انتبه فأخذ يناديني بكل سماجة، «أختي هالة»، فلم أجبه لعل وعسى أن يُحرج ويعدل عن نياته، عاد مرة أخرى ينادي، فزاد الغضب الذي أيقظ أصواتاً في رأسي كنت قد دفنتها منذ 10 سنوات، يا للوقاحة، أختك.. الآن بكل بساطة، وماهي إلا لحظة ووجدته واقفاً أمامي، «أختي هالة ألم تتعرفي عليَّ؟ أنا فلان الفلاني زميلك ورئيسك السابق»، لا أدري كم من الوقت مرَّ عليَّ وأنا أبحث له عن إجابة تجعله يحل عن سمائي ولكن لم أجد، فأجبته «تذكرتك الآن» ثم تجاهلته وأدرت رأسي للنقطة التي أعود فيها كالتمثال، كانت حركة المرضى في الدخول بطيئة تملكني بسببها شيء من تأنيب الضمير لشعوري بالعجز عن علاج ولدي على الفور، وربما زادها الشعور بالهزيمة لأنني جَبنتُ من الثأر من ذلك الشخص الذي قام بالتنكيل بي أثناء فترة مهمة في حياتي، فما إن ظهر بطني يبشر بوجود طفل قادم، حتى قام بمعاملتي بقسوة وفظاظة، فبدلاً عن الترفق بي في تلك الفترة، عهد لي بعمل ثلاثة موظفين، وحين ثقُلت حركتي قام بنقلي من العمل المكتبي، إلى عمل ميداني في قسم آخر خاص بخدمات التنظيف!! جلست أحَضر بعدها لسنوات الكلام الجارح الذي عليّ أن أوجهه له حين ألقاه يوماً، والآن مرت الفرصة دون أن أرد له شيئاً من الإهانة أو الألم الذي سببه لي، عاد من الداخل مُصطحباً بيده فتاة صغيرة، ثم قال لي بلطفٍ غير معهودٍ عنه «هل تعتني بها ريثما أعود إلى والدتها التي تُحتضر في الداخل» فهززتُ رأسي بالإيجاب في محاولة لابتلاع غصة سدت حنجرتي، وأخذت الفتاة على الفور بين أحضاني، وما إن اختفى حتي انهمرت الدموع.. وماتت جميع الأصوات في رأسي.