النسخة: الورقية - سعودي سطّر الكاتب المتأنق والمتألق فهد الأحمدي مقالة من ذهب في صحيفة «الرياض»، بعنوان: «حين تعلِّم أبناءك التاريخ بطريقة خاطئة سيطبقونه بطريقة خاطئة». والمقالة المذكورة تتغيا الذهاب إلى أنه ليس كل ما يقال صدقاً وليس كل ما يلمع ذهباً. فالتاريخ دائماً ما يُغلَّف بقشرة سميكة من الأساطير، لدرجة تجعل الاقتراب منه بأدوات البحث ومشارط النقد أشبه بمقامرة محفوفة بالمخاطر. فنحن - المسلمين - نرنو إلى التاريخ كما لو كان كتاباً مقدساً، أو كما أن من يتحرك فوق خشبة مسرحه أنصاف آلهة وليسوا ببشر من طين. وحتى نعيد للتاريخ بشريته ونمحو عن وجهه ملامحه الأسطورية يتوجب علينا قراءته متخففين من الرغبات المبطنة والأحكام المسبقة. إننا عندما نجرّد التاريخ من ثيابه الأسطورية ونضعه ضمن سياقاته الإنسانية نكون قد انتزعنا من جماعات التأسلم السياسي ورقة رابحة لطالما لعبت بها للتبشير بالرجوع إلى ماضٍ أبيض لا شية فيه، على رغم أن عقارب الزمن لا تعود القهقرى. يسوق الأحمدي جملة من الأمور التي جرى تهويل بعضها وابتسار بعضها الآخر، إما بقصد العجز عن إيجاد المبرر الأخلاقي، وإما من أجل تمرير أجندات معينة. فمن الأمثلة على ذلك: الحرص الدائم على تقليل أعداد المسلمين في مقابل تكثير أعداد الكافرين أثناء وقوع المعارك. إلى أي شيء أودت بنا تلك المبالغات التي يرددها شيوخ الجهاد والفتنة؟ لقد قادت عشرات الآلاف من الشبان إلى ساحات القتال في أفغانستان وغيرها من البلدان ظناً منهم أن المعجزات ستولد على أيديهم من جديد، فكانت النتيجة أنهم انتهوا ما بين قتيل وطريد وسجين. ويا ليتهم توقفوا عند اللعب بالأعداد، ولكنهم أفرطوا في اجتراح المعجزات في حروبهم مع الكفار. ففي ذات مرة أراد المسلمون أن يقطعوا مياه دجلة فما كان من النهر إلا أن شرب مياهه ليعبره المسلمون فوق ظهور جيادهم، وكما لو أنهم كانوا في نزهة برية. وبحث المسلمون عن طعام بعد أن أصابهم الجوع وأدركهم التعب، فجاء أحدهم إلى رجل نبطي عنده بقر وأغنام فحلف له النبطي أن ليس عنده شيء، فصاح الثور بلسان عربي مبين وقال: «كذب والله ها نحن أولاء»، فدخل واستاق الثيران وأتى بها العسكر! ألم ينسج عرّاب الجهاد في أفغانستان «عبدالله عزام» على منوال تلك المعجزات في كتابه «آيات الرحمن في جهاد الأفغان»؟ لقد شحن الرجل كتابه بأكاذيب تسد عين الشمس بشأن أعاجيب الجهاد الأفغاني، وهذا ما جعل الآلاف من المخدوعين ينهدون إلى تلك البلاد لتسطير معجزات لم تتحقق. ويعود الأحمدي ليحدثنا عن ألوان البسترة التاريخية التي تجعلنا نُبقي على ما نشتهي ونُخفي ما لا نشتهي، مستدلاً بذلك بالكلام عن الدولة الأُموية وفتوحاتها في المشرق والمغرب والسكوت عن مذبحة المدينة على أيام يزيد وضرب الكعبة بالمنجنيق أيام عبدالملك. والحقيقة أن الفتوحات نفسها لم تسلم من مقاصدها الدنيوية، وهذا ما لا نريد سماعه وتصديقه. اسمع إذاً ما قاله الحجاج، وهو يخطب في أهل العراق، بعد أن ضاق بهم وضاقوا به: «إني لم أجد دواء أدوى لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل فإنها تعقب راحة، وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم، ولا الراحة بكم..». وعلاوة على ذلك كانت الفتوحات خير وسيلة لكسح خيرات الدول المغلوبة وحيازة ثمراتها وسبي رجالها ونسائها، والأدلة على ذلك أكثر من أن تعد أو تحصى. وكذلك تجد أننا نتكلم عن بطولات قادة الفتوح من أمثال قتيبة وابن زياد وابن نصير وابن القاسم الثقفي ونضرب صفحاً عما حلَّ بهم من قتل وتشريد على يد سليمان بن عبدالملك. جماع القول، إن عمليات تزويق التاريخ وتزويره لن تنفعنا في كسب العبرة والعظة كما يرتجى، بل إنها تجعلنا نركض وراء سراب نحسبه ماء. alsaeed@alhayat.com