الله... كم نحن صغار أمام هذه المجرة، كبذرة صغيرة في التربة، كنجمة لامعة في السماء، صغار لا يسع لأحد رؤيتنا إلا أنك يا الله خلقت بداخلنا مجرة انطوت بين ثنايا قلوبنا، فنصبح أشجارا وزهورا وشمسا وأشهب، "ونحسب أننا جرم صغير وفينا انطوى العالم الأكبر"، الله.. نقف أمام هذه العظمة مشدوهين لا يسع لأحدنا التحدث، فمن له القدرة على الحديث أمام هذا الكون العملاق أمام هذه النفوس الحاملة لآلاف الأسرار؟ الله... إن العالم مرعب وفكرته أرعب، فمن منا لم يقشعر يوما وهو جالس يتأمل الأرض والسماء والكائنات الحية؟ ومن منا لم يطلق لأفكاره العنان في هذا الكون الشاسع؟ فعالم في الأعلى وآخر في الأسفل تسكنه كائنات تحمل بدورها عالما يقع في عمق أعماقها، وعلى الرغم من وسع هذا الكون وعمقه إلا أننا يا الله سجناء ومقيدون نفتقد حريتنا ونرضى بقيودنا، ونبحث عن سعادتنا بداخل سجوننا، الله، إنك تعلم بحالنا فماذا أقول يا الله وأنت عالم الغيب؟ مقيدون نحن بداخلنا، نستسلم لأفكارنا البائسة فنصبح سجناء فكرة سلبية، نكتئب ونقبع هناك خادعين أنفسنا وراسمين على وجوهنا ابتسامة مزيفة، نسلم أنفسنا لأجهزتنا الإلكترونية؛ ذاك الكائن الخبيث الصائد للأرواح، فتجده دائما ما يرمي بشباكه علينا فيصيدنا الواحد تلو الآخر، ويحبسنا هناك بداخل عالمه وشاشته الملساء، فننسى من حولنا، وينسوننا هم بدورهم، وننسى أنفسنا، وذاك العالم الخارجي حيث يطير الفراش وتغرد العصافير وتتمايل الأشجار تحية للرياح. نرمي بواقعنا ونلقي بأنفسنا لخيالاتنا التي تتلقفنا هي بأغلالها فتسحبنا نحو الأسفل والأسفل، فكلما هرعنا إليها تسحبنا نحو سجنها الخاص وتشد على عقولنا وتصبح ملازمة لنا كظلالنا، تراقبنا وتنقض علينا في كل لحظة نقضيها بواقعية واستمتاع في حياتنا الحقيقية، تنسينا وجودنا وتحولنا لكائنات متلاشية بلا ملامح حقيقية، فنختفي ونصبح جثثا من اللاشيء، فتجدنا يا الله نفتقد حس الحياة وأصواتها، فالكون واسع ونحن أوسع، ولكننا مع ذلك يا الله نلقي بأنفسنا للتهلكة؛ فنسلم أنفسنا، ونخدع أرواحنا بالسعادة التي نملكها، ونخفي تلاشينا بالأقنعة الضاحكة التي نرتديها، فنفتقد كل شيء، نفتقد القلوب الصافية والنفوس السعيدة والضحكات الصادقة والأشياء البسيطة التي تدخل علينا الفرح بأنواعه، فنحن ببساطة الحال نفتقد حس الحياة وحس أنفسنا بالذات، الله... لا أرجو منك إلا أن تساعدنا في أن نتخلص من تلك القيود وأن نفرد أجنحتنا تملأنا الحياة بحسها وأصواتها تماما كما خلقتنا أول مرة.