×
محافظة الحدود الشمالية

اجتماعي / فرع العمل والتنمية الاجتماعية بالشمالية ينظم فعاليات بـ "اليوم العالمي للتطوع"

صورة الخبر

ما يسمى بالهزيمة الحضارية داء خطير يبدأ سريانه في الأمم عند مفاصل تاريخية في حياتها منطلقا في الغالب من أفراد يتمتعون بهمة عالية وقدرات عقلية وبيانية متميزة، لكنهم باجتماع هاتين الصفتين فيهم يكتسبون غرورا معرفيا يفقدهم المناعة ضد هذا الداء عند أقوى صدمة ثقافية يواجهونها، فتجعلهم يترنحون وينقلبون على أنفسهم وماضيهم بدرجات مختلفة ومتباينة في قوتها واتجاهاتها. وكانت أول علاقة للأمة الإسلامية بهذا المرض، بعد مقتل عثمان -رضي الله عنه- والفتنة التي شجرت بين الصحابة حينما لم يستطع البعض فهم ما حدث في سياقه الطبيعي، كما فعل جميع الصحابة وعلماء التابعين، فظهرت طلائع الخوارج والشيعة والقدرية والمرجئة، وبدؤوا ينحرفون في إجابة استشكالاتهم التي أحدثتها تلك الصدمة عن النص القرآني والنبوي وعن فهم الصحابة لهذه النصوص إلى أهواء إما سياسية وشعوبية، أو آراء خاصة تتلبس لباس العقلانية، أو الاستقاء من ضلالات أمم سابقة يجعلونها محورا يحاكمون النصوص الشرعية إليه، ويأولونها لتتوافق معه. وكانت تلك الطوالع الانهزامية مع الذات؛ أي أنهم لم يستوعبوا حلول المشكلات الفكرية الطارئة، من داخل دستور الأمة، وهو النص الإلهي، فبغوا عليه كما قال تعالى (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم)، لكن هذا الأمر سرعان ما تطور ليكون هزيمة مع الآخر، أي تحت وطأة الثقافة الوافدة والانقياد إليها كما حدث فيما بعد، حين لبست تلك الانحرافات لبوس الفلسفة والمنطق وعلم الكلام بحثا عن مستند يعبر عن العجز التام عن الانطلاق من النص. وشكل عصرنا هذا والذي تعيش فيه الأمة هزيمة حقيقية وليست مفتعلة سياسية وعسكرية وتكنولوجية: بيئة أشد ملاءمة للهزيمة الحضارية التي جرفت الكثيرين من العلماء والعقلاء والمفكرين ليمارسوا البَغْي الشديد على تراثهم ودينهم ومقدساتهم، بين متطرف في هذا البغي منقلب على أمته بالكلية، وبين من يحاول المواءمة بين معطيات الحضارة الغالبة [ الغربية] وبين حضارة أمته عن طريق إنكار النصوص أو صرفها عن معانيها لصالح المُعْطى الغربي الوافد؛ وهذا الاتجاه هو ما يعرفه البعض باتجاه التنوير الإسلامي أو الليبروإسلامي. والنماذج على ما قدمت من انحرافات هؤلاء باتجاه المُعْطى الغربي عديدة؛ لكنني أختار للحديث هنا موقف كثير منهم من النسخ في القرآن، كمثال صارخ على جرأتهم على نسف مُسَلَّمات الأمة من أجل التراضي مع ما يتصورون أنها قيم غربية؛ تحت مزاعم تنقية التراث، والتجديد الديني، والإصلاح، وغير ذلك من تسمية الأشياء بغير أسمائها. فالنسخ مصطلح جاء به القرآن الكريم علما على عدد من القواعد التي لا بد للمجتهد من مراعاتها عند استنباط الأحكام الشرعية من النصوص، منها: رفع الحكم إلى غير بدل، ورفع الحكم وإبداله بآخر، مع إبقاء النص الدال على الحكم الأول أو رفعه أيضا، ورفع النص الدال على حكم معين مع الإبقاء على ذلك الحكم؛ ويَقَع النسخ في القرآن بالقرآن، وفي القرآن بالسنة، وفي السنة بالقرآن وفي السنة بالسنة، ومن الأصوليين من يضمون إلى النسخ تخصيص العام، وتقييد المطلق. وتفاصيل قواعد النسخ فيها خلاف بين العلماء، أما وقوعه في الجملة فلم يقع بين المسلمين فيه خلاف، لا في عهد الصحابة الذين هم أعلم الخلق بمراد الله ومراد رسوله، صلى الله عليه وسلم، ولا بين التابعين وتابعيهم؛ وظل هذا الأمر محل اتفاق بين أمة محمد، جيلا بعد جيل، سُنّتهم ومبتدعتهم، حتى القرن الخامس الهجري، إذ نُسِب القول بإنكار النسخ إلى أديب معتزلي له مشاركات في العلم الشرعي، وليس من الذين يعتبر قولهم في مسائل الشريعة؛ وهو أبومسلم محمد بن بحر الأصبهاني المتوفى سنة ٤٥٩هـ؛ ومع ذلك فلم تثبت عند المحققين نسبة هذا القول إليه؛ وكان أول من انتقده علماء مذهبه من المعتزلة الذين كانوا عبر تاريخ الإسلام أجرأ الناس على محاكمة النصوص إلى عقولهم؛ ولم يعرف بعده من يقول بذلك سوى أفراد معدودين على مدى التاريخ حتى جاء العصر الحديث وابتلي بعض مثقفي وعلماء الأمة بالهزيمة الثقافية فأعادوا بعث هذا القول من مرقده. والمصيبة اليوم ليست في إنكار قاعدة أو قواعد أصولية فحسب، بل في كون إنكار النسخ تهمة شنيعة للأمة من عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى عصرنا الحاضر بأنها أثبتت قواعد في فهم النصوص ليست من الشريعة في شيء، وما أنزل الله بها من سلطان، كما يزعم بعضهم، وأسطورية كما يأفك آخرون؛ ويلزم من هذا القول لازم خطير لا يمكن انفكاكه عنه، هو إمكانية التشكيك في كل ما أجمع عليه الصحابة وتابعوهم وتابعوهم، فلا يعود لإجماعهم عصمة، ولا لتواطئهم على أمر حجية؛ بل: إذا نُزعَت العصمة والحجية مما ثبت إجماعهم عليه، فأحرى أن تسقط أقوالهم التي اختلفوا فيها، وأن تذهب أدراج الريح، ولا يعود لها أدنى صدقية، ولا يرفع بها محتج رأسا؛ بل إذا قِيل إنهم تواطؤوا على إثبات باطل النسخ وأسطورته [كما يزعمون]؛ فما الذي يمنع قائلا أن يقول بتواطئهم على إثبات غيره من الباطل في الشريعة؛ حاشاهم ذلك رضي الله عنهم ورحمهم. والمصيبة الأعظم أن هذا التسفيه لأفهام الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة الإسلام عبر أربعة عشر قرنا جاء من أجل إنكار ما اصطلح عليه الفقهاء بجهاد الطلب، وإنكار حَدِّ الرجم للزاني المحصن، فرارا من اتهام الغرب للإسلام بعدم التسامح، أو الوحشية في العقوبات؛ وهذا وفق تصريح منكري النسخ وليس تقولا عليهم؛ فيا له من ثَمَن بخس أن يَنْسِف المثقف تاريخ أمته ووعيها من أجل خرافة التسامح التي لا يخفى على متابع للتاريخ أن الغرب من يوم أطلقها في الثورتين الإنجليزية في القرن السابع عشر، والفرنسية في القرن الثامن عشر، لم يعمل بها حقبة من الدهر، بل كانت فكرة التسامح هي أكثر أسلحته فتكا في العالم، إذ تحولت بريطانيا وفرنسا بعد ثورتيهما من أجل التسامح إلى أكبر دولتين استعماريتين في التاريخ الإنساني، ولقي العالم على يديهما من العتو والجبروت ما لم يُعْرَف سوى في تاريخ أسلافهم الرومان. وهنا أقف بالقارئ الكريم قليلا مع بعض أدلة النسخ في القرآن ليعرف سبب هذا الإطباق من الأمة عبر قرونها الأربعة عشر القول به؛ فمنها قوله تعالى {ما ننسخ من آية أو نُنْسِها نأتِ بخير منها أو مثلها}، وليس للمفسرين من الصحابة والتابعين قول في معناها غير كونها دالة على النسخ الذي هو رفع الحكم أو التلاوة، وليس لهم في معنى {آية} قول سوى أنها الفقرة من القرآن، وأي تفسير لها بغير ذلك فهو محدث مختلق لا يعرفه الصحابة ولا التابعون، فأي جرأة وغرور أكبر من أن يأتي مُحْدث في تفسير آية بما يخالف قول الصحابة والتابعين وأئمة التفسير وأصول الفقه في كل العصور! وقال تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}، وليس في أقوال المفسرين سوى أن المراد بالتبديل النسخ على اختلاف عباراتهم في ذلك. وقوله تعالى {الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا}، ليس في أقوال المفسرين ولا رواة السير ولا أهل الأصول سوى أنها جاءت ناسخة لقوله تعالى {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ}. وقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر وَالأَنصَاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}، وليس في كلام المفسرين من الصحابة ومن بعدهم غير كونها نسخا للإباحة أو الكراهة المستفادة من عدد من الآيات المتقدمة عليها في النزول. فقوة أدلة النسخ في القرآن، وإطباق الأمة على فهم دلالتها على رفع الأحكام والنصوص، إنما هي أمثلة على قوة أثر الهزيمة الحضارية على المُثقَّف، حيث تفقده القدرة على تقييم الأدلة، فيأنس إلى ترجيح المعاني المُشكِلة والمرجوحة، ويستعمل لإقناع قُرَّائِه أو مستمعيه حشد الشبهات وتهويل الأرقام وتضخيم اللوازم الفاسدة؛ ليُخفي عن الأعين مظهره المنهزم أمام حضارات الآخرين ليحاول أن يبدو مُصَحِّحا ومصلحا ومجددا ومكتشفا. فإذا كان هذا شأن المنهزمين حضاريا مع قضية أبين من الشمس كالنسخ، فإن حالهم في القضايا التي تقل عنها في الوضوح كحد الردة وقضايا المرأة أكثر مأساوية، ويضعنا بحق أمام قوله تعالى {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله}.