النسخة: الورقية - دولي على مدى التاريخ مرت أمم ودول بفترات قوة جمعت فيها النفوذ والسطوة والمال ومظاهر التقدم، وبالتالي التأثير على الأمم والدول الأخرى، كما عانت دول أخرى أو هي نفسها فترات ضعف وصلت إلى حد احتلال أراضيها وتهجير وتشريد أهلها. المهم أن يبقى لدى الدولة دائماً الأسباب التي تعيدها قوية مرة أخرى أو على الأقل تضمن بقاءها من دون أن تتفكك أو تتحلل أو تنقسم أو تذوب مهما مر بها من فترات ضعف أو قلائل.. أو ثورات. في مصر حزب يحمل اسم «مصر القوية» يتزعمه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح لكن الحزب يعتقد، كما يروج «الإخوان» أيضاً، أن مصر ضعيفة وتسير إلى الخلف، إلى درجة أن بعض معارضي «الإخوان» وأبو الفتوح اعتادوا أن يطلقوا على حزبه اسم «مصر الطرية» كسخرية سياسية من حزب يعمل عكس اسمه. القضية تتعلق بالمخاوف من سقوط الدولة المصرية وتفككها وانهيار مؤسساتها وخضوعها لسيناريوهات تقسيم أو تجزئة، كما حدث لدول أخرى مرت عليها رياح الربيع العربي. ترى المخاوف تسري في قلوب بعض المصريين وأفئدة محبي مصر خارجها تأثراً بمشاهد عنف «الإخوان» في الجامعات والشوارع والمسرحيات الهزلية في قاعات المحاكم بواسطة قادتهم، وبفعل حوادث الإرهاب التي تجاوزت مقرات ومسؤولي الشرطة والجيش إلى السياحة والسياح، وأيضاً بفعل حملات التشويه المنظم التي تحركها أجهزة واستخبارات تابعة لدول أخرى بعضها صغير وإن ملك المال وأخرى كبيرة تسعى لتطبيق خطط وضعت سلفاً تتعلق بتغيرات في المنطقة أو لدى قادتها رغبات انتقامية بعد إقصاء «الإخوان» عن الحكم في مصر، وأيضاً بفعل وسائل إعلام مرئية ومسموعة وصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي لم تترك مسؤولاً إلا وسعت إلى حرقه وشائعة إلا وتفانت في نشرها بمعاونة «ثورجية» لا يعرفون مدى للثورة أو نهاية للاحتجاج أو بداية للإصلاح. وأخيراً بفعل بطء غير مبرر في التعامل مع قضايا تحتاج السرعة والحسم واهتراء حكومي غريب بسبب الحرص على توازن المصالح أو القوى داخل كل تشكيلة حكومية أو تفادي غضب هذا الحزب أو ذاك مع كل خطوة سياسية. غريب أمر مصر التي نهبت عبر عقود ضرب فيها الفساد مفاصلها وهز قواعدها وسرطن أساساتها، ومع ذلك ظلت أكبر دولة في المنطقة حضوراً وتأثيراً. ورغم شكاوى أهلها وطلابها من سوء التعليم وتهالك المدارس وترهل الجامعات بقيت تصدر العلماء إلى ربوع الأرض والبلدان الأخرى وتفرز الكفاءات في كل المجالات. نعم أمر محير أن تبقى دولة من دون تفكك، وشعب من دون أن يأكل بعضه وسط صراعات سياسية، وتناقضات اجتماعية، وتراجعات اقتصادية، وتدنّ في المستويات الحياتية والمعيشية. مصر التي انتشرت على أطراف مدنها العريقة المساكن العشوائية والأحياء غير المنظمة والشوارع الركيكة والحارات المزدحمة لم تهزمها العشوائية وحافظت الأحياء الراقية على تاريخها ولم يفتك الفقراء بالأغنياء، وهم يستطيعون، واحتفظوا بالحد الأدنى من الأخلاق. بقيت سمعة الشرطة في مصر سيئة وطاولتها الاتهامات على مدى سنوات وانتشرت قصص القمع والتعذيب والتجاوزات، لكن الغريب في مصر تلك الوقائع عن ضابط وجنود راحوا ضحايا التفاني والإخلاص والشهامة لإغاثة فتاة من براثن بلطجية أو إنقاذ مواطن تعرض للغرق في النيل أو مواجهة شر إرهاب يعتبره البعض جهاداً أو نصرة للدين. عجيب أمر مصر التي ظلت قوية وإن انهار جهازها الأمني واخترقت حدودها وفتحت سجونها واحترقت أقسام شرطتها فتولى بعض أبنائها حفظ الأمن فشكلوا لجاناً شعبية ولم يشكلوا ميليشيات! وعبرت الدولة بشعبها خطر الحرب الأهلية مرة أو مرات. يأكل الناس في مصر ويشربون ويذهبون إلى أعمالهم أو إلى المقاهي أو يهيمون في الشوارع أو يتسكعون على كورنيش النيل وفي الخلف تظاهرات «الإخوان» ودخان حرائقهم وأصوات سيارات الإسعاف وقذائف الحجارة والمولوتوف والرصاص. مذهل أمر البورصة المصرية التي تحقق أرباحاً رغم عدم الاستقرار السياسي والانفلات الأمني، وهذه الفنادق التي لم يغلق واحد منها على رغم أنها تكاد تكون خاوية.. غريب أمر مصر التي قام شعبها بثورتين وما زال بعض أبنائها يهتفون بسقوط النظام، على رغم أنه على الأرض لا يوجد نظام ليسقطوه. لا خوف من تقسيم مصر أو انهيار الدولة، فهي تعيش على رغم كل ما بها من أمراض وما حولها من مؤامرات وما بداخلها من عملاء وما يمر بها من ثورات. يأتي عبد الناصر ويموت ويجلس السادات على المقعد الرئاسي ثم يُغتال ويحل مبارك محله ويبقى لثلاثة عقود ثم يتنحى بعد ثورة، ويأتي «الإخوان» برئيسهم مرسي ويُعزل بعد ثورة أخرى، وتأتي حكومات وتذهب ويطل الببلاوي ثم يفسح مكانه لمحلب الذي أيضاً سيذهب، ويستجدي «الإخوان» الغرب والشرق، ويتصارع طالبو السلطة ومناضلو الفضائيات ومصر التي هي الآن بلا نظام حكم وكأنها تضحك على الجميع ببقائها.. وغيابهم واحداً بعد آخر.