يثير القانون الذي صدر عن الكونغرس الأميركي أخيراً في شأن «العدالة ضد رعاة الإرهاب» والذي بات يعرف باسم «جاستا»، التساؤل حول مستقبل القانون الدولي والعلاقات الدولية، ذلك أن «جاستا» يمس ليس فقط سيادة الدول المستهدفة به ولكن أيضاً مبادئ القانون الدولي الذي يعاني أصلاً مما يشهده الواقع الدولي من اضطرابات منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ويسمح «جاستا» لعائلات ضحايا الهجمات الإرهابية برفع دعاوى مدنية ضد دول أجنبية أمام القضاء الأميركي، وينطبق القانون على المطالبات المدنية الناشئة عن أضرار لحقت بالأشخاص أو الممتلكات أثناء وبعد 11 أيلول. ويمكن تبيان مدى خطورة «جاستا» على القانون الدولي من خلال الملاحظات الآتية: - أولاً: لا بد من الإشارة إلى أن هناك نظريتين تحددان العلاقة بين القانون الدولي والقانون الداخلي، وهما: نظرية ثنائية القانون التي تعتبر أن كلاً من النظامين القانونيين مستقل عن الأخر، ونظرية وحدة القانون التي بموجبها يعد النظام القانوني واحداً لا يقبل التجزئة نظراً الى الترابط القائم بين كل فروع القانون. وقد جرى العمل في العلاقات الدولية على عدم اعتماد إحدى النظريتين على الأخرى، غير أن حكماً صدر عن المحكمة الدائمة للعدل الدولية عام 1932 أشار إلى أنه «لا يمكن الدولة أن تحتج بتشريعها الداخلي لتحد من مدى التزاماتها الدولية». وهكذا فإنه في حال التعارض بين القانون الداخلي والقانون الدولي فإنه يتعين على الدولة أن تلغي النص القانوني الداخلي أو تعدله بما يتفق مع القانون الدولي الذي التزمت به، وإلا تحملت المسؤولية الدولية. ومن هنا نجد أن أغلب دساتير الدول تتضمن بين موادها ما ينص على تطبيق المعاهدات والمواثيق الدولية التي التزمت بها، ومن ذلك، على سبيل المثال، ما نصت عليه المادة 6 من دستور الولايات المتحدة من أن «الدستور وجميع المعاهدات التي أبرمتها أو تبرمها الولايات المتحدة تعد القانون الأعلى للدولة». ومن هنا فإن قانون «جاستا» إذ يخالف المواثيق الدولية يكون بالتبعية مخالفاً أيضاً للدستور الأميركي. - ثانياً: يمس قانون «جاستا» بأحد أهم المبادئ المستقرة في القانون الدولي وهو مبدأ «المساواة في السيادة بين الدول»، فهذا المبدأ يحظى بمكانة الصدارة ضمن المبادئ التي قامت عليها هيئة الأمم المتحدة، إذ جاء في المادة 2 الفقرة 1 من الميثاق أن «هذه الهيئة تقوم على مبدأ المساواة في السيادة بين أعضائها». ويعني هذا المبدأ أن كل الدول متساوية قانوناً، ولكل دولة الحق في أن تتمتع بسيادتها كاملة، وأن شخصية الدولة ووحدتها الإقليمية واستقلالها السياسي يجب أن يحترم (ورد هذا المعنى في تفسير اللجنة المختصة في مؤتمر سان فرانسيسكو عام 1945). كما أكد ميثاق الأمم المتحدة أيضاً في المادة 78 منه أن «العلاقات بين أعضاء هذه الهيئة يجب أن تقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة». - ثالثاً: معلوم أن القانون الداخلي لا يطبَّق على غير إقليم الدولة التي وضعته، وهذا أحد الفوارق بين القانون الداخلي والقانون الدولي. ولئن كان من حق الولايات المتحدة أن تصدر ما تشاء من قوانين للتطبيق على إقليمها، باعتبار أن ذلك يعد عملاً من أعمال السيادة، إلا أن «جاستا» وبما أن دائرة تطبيقه تتسع إلى خارج حدود الإقليم، وآثاره تمتد لتنطبق على دول ذات سيادة، فإن ذلك يقتضي مراعاة مبادئ القانون الدولي، خصوصاً احترام مبدأ السيادة الذي يجب أن تقوم عليه العلاقات بين الدول، كما نص على ذلك ميثاق الأمم المتحدة. وهكذا فإنه يتعين على الجهة التي أصدرت قانون «جاستا» أن تعيد النظر فيه لجهة إلغائه أو تعديله، بما ينسجم مع المواثيق الدولية، أما الإصرار على تطبيق هذا القانون فلا يعدو أن يكون حلقة جديدة من حلقات تقويض القانون الدولي، ونكوصاً عما شهدته مبادئ هذا القانون من تطور منذ نشأة الدول القومية في القرن السابع عشر، خصوصاً مسألة السيادة التي أصبحت مقيدة بقواعد القانون الدولي مع نشأة الأمم المتحدة. وهو ما يعني العودة بالعالم قروناً إلى الوراء، إلى مرحلة ما قبل التنظيم الدولي حيث كانت فكرة السيادة المطلقة هي السائدة، والتي بموجبها تتصرف الدولة ليس بما ينسجم وقواعد القانون الدولي بل استناداً إلى قوتها ومصالحها. محمد بن صديق (باحث مغربي)