في السنوات الأولى ظللت أعد الأيام والأسابيع، وأجرِّح لون الحائط بخطوط بيضاء كلما مرت. الآن توقفتُ. توقفتُ تماماً عن عد الأيام. حدث ذلك عندما تذكرتُ حياتي لآلاف المرات ودقَّقتُ التذكر في كل ربوع شبابي. من يومها عشقت الجدران وقررت أن أتزوجها وأسكن إليها وفيها. دخلتُ بها في ليلة قارسة، ومن يوم دخلتنا الصامتة لا أجرح لونها برسم أحلام ليست لها. حدث ذلك في اليوم الذي أدركتُ فيه أنها تحميني من شبح مخيف، شبح ظل يلعب بي كقط جائع يستمتع بتلك الرقصة الأخيرة لفأر خائف. أنا كنت الفأر وقط الغد لم يرحمني أبداً. راودني عن عمري وأغراني برزق لا يأتي. أنا هنا في زنزانتي الأنثى، لا أرى الغد ولا يراني، هي مملكتى وأنا رئيسها وشعبها وطرقعة أصابعي نشيدها الوطني. والرزق الذي شدني إليه الغد كي يوقع بي في ما مضى، يأتيني هنا ويُرمى تحت قدمي، وإذا مرضتُ، هرع خُدَّامي كالمجانين ليعالجوني، ولا يسألونني عن ذلك أجراً. بالطبع هذه جنّتي دخلتها حين أكلت التفاحة مرة أخرى. أنا أسعد خلق الله في وحدتي هذه، الغد لا يخيفني أبداً ولا يزورني حين تأتي الزيارة، أعرف أنه يتربص بي خلف الجدران وأنه حتماً سيدس السُمَّ في طعامي يوماً، لكنني كلما وجدت الطعام بلا سم فيه، أحيا حياة جديدة. هل أهداك عدوك يوماً، حياة جديدة؟ وحده السجان أسعد مني، فهو حارس جنّتي وجنّة الآخرين، وفي الليل يذهب خلف الأسوار يستزيد من ملذات الجحيم ما يعينه على تحمل وجهي في الصباح. كان اسمه مهران. هو أسعد خلق الله لا محالة، ملابسه مفرودة دائماً كنظراته، قامته فارعة، يمسك كرباجاً لامعاً، وفي حزامه الميري كشَّاف أنيق، حين يضغط أزرارَه يتعجل الصباحَ ويغزل منه خيطاً يقتل به الظلَ، لا أرى غيره طوال الأيام التي حفرت لها خطوطاً شاحبةً على الحيطان، وعندما توقفت عن عد الأيام؛ لم أر غيره أيضاً. أميِّز صوت حذائه جيداً، وأفرق بين الحذاء الغاضب والباسم. أعرف أيضاً الحذاء الثرثار الذي يريد أن يزور مملكتي ويحكي كلاماً يطير مع دخان سجائرنا. يأكل نصف طعامي، وأنا أتأمل كيف يصارع دخانُ سيجارتي دخانَ سيجارته، ويلوي عنقه، ويأخذ منه الكرباج وعلى خصره يضرب ويضرب ويدس المصباح فى فمه، ويضيء أحشاءه بلا سبب، دائماً دخاني هو الفائز، ينقض على دخانه ويفعل معه الفُحش ذاته، والأبله لا يدري بكل ما يحدث، يثرثر عن بطولاته السريرية خلف الأسوار، ودخانه يُغتصب جريحاً قرب السقف. لو وجد عندي طعاماً أكله، لا يعلم أنني أجرب فيه خلو طعامي من السم، كنت أعطيه نصف الأكل، فإذا عاش لليوم التالي، آكل أنا النصف الآخر. فعلت ذلك بمهارة طباخ لا يريد أن يتذوق سمّه، دعوت الله ألا يموت يوماً، فمن غيره يسمح لدخاني أن يغلبه؟ من غيره أعرفه وأعرف نفسي فيه؟ ربيتُ شاربي مثله وحلقت رأسي، صرت أشبهه وأشبه حكاياته، ضاعت الحكايات القديمة وصارت حكاياته هي الأبقى. طلبت منه أن ألمس الكرباج فأعطاه لي، تحسسته، وجدته ناعماً كالحرير، صلباً كجلد الحية، براقاً كذيل النجمة فى السماء، ضربت الحائط به واستعذبت عذابها، مرت الليالي وأنا أحلم بالكرباج، بسُكر يندفع الى حلقي حين أمسك قبضته، وحين ألمس نعومته تسري في جسدي رعشةً. بكيت عليه حين مات، وحين لم يمهله السم طويلاً فمات على ركبتي، سال ريق من فمه على قدمي، فوقفتُ. وقفتُ أنا وقفتَه ونام هو. وبرعشة عاشق أمسكتُ الكرباج بيدي فاندملت خطوط غائرة في ظهري. لم يكن في الهواء دخان يتصارع، لا شيء غير رائحة الموت تحمل روحه إلى أعلى. وجدت المفاتيح في سترته وأنا أرتديها، قبَّلتُه في جبينه وذهبت، فقد كنتُ توَّاقاً أن أرى المساجين الآخرين وأحكي لهم عن بطولاتي السريرية.