رغم أنني لا أستسيغ شعراء المديح٬ فإن هذا لا يمنعني من الاعتراف بأن أروع الشعراء هم من خاضوا في هذا المجال٬ وأغلبهم قالوا ذلك من أجل النفاق والتكسب فقط لا غير٬ والقلة منهم قالوه عن قناعة وصدق. وها هو (شوقي) يقول مادحا الرسول عليه الصلاة والسلام: مدحت المالكين فزدت قدًرا / وحين مدحتك اجتزت السحابا رغم أن الرسول فوق المديح نفسه٬ فيكفيه ما وصفه به الله سبحانه وتعالى٬ عندما قال عنه في محكم كتابه: (وإنك لعلى خلق عظيم). وحيث إن الممدوح غالبًا من أصحاب الجاه والثراء٬ وما إن يسمع المديح حتى يطرب وتأخذه العزة بالإثم٬ ويصدق ما يقال عنه٬ عندها (تتحلحل صواميله)٬ ويغدق على الشاعر العطايا. وإليكم نموذجا من ذلك٬ فيقال إن شاعرا قصد (خالد بن يزيد)٬ فأنشده مادحا: سألت الندى والجود حران أنتُما / فقالا يقينًا إننا لعبيدُ فقلت ومن مولاكما فتطاولا / إلّي وقالا خالد ويزيدُ فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم٬ وقل له: إن زدتنا زدناك. فأنشد يقول: كريم كريم الأمهات مهذب / تدفق يمناه الندى وشمائله هو البحر من أي الجهات أتيته / فلجته المعروف والجود ساحله فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم٬ وقل له: إن زدتنا زدناك. فأنشد يقول: تبرعت لي بالجود حتى نعشتني / وأعطيتني حتى حسبتك تلعب وأنبت ريشا في الجناحين بعدما / تساقط مني الريش أو كاد يذهب فأنت الندى وابن الندى وأخو الندى / حليف الندى ما للندى عنك مذهب فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم٬ وقل له: إن زدتنا زدناك. فأنشد يقول: يا واحد العرب الذي / ما في الأنام له نظير لو كان مثلك آخر / ما كان في الدنيا فقير فقال: يا غلام أعطه مائة ألف درهم٬ وقل له: كفيتنا وكفيناك. وفي العشرينات من القرن الماضي٬ كان (حفني ناصيف) الثري سهران في أحد الأندية٬ فدخل عليه رجل٬ ودفع له بورقة فيها هذان البيتان: جارت علّي الليالي في تصرفها / وأغرقتني في لج من المحن فيا عيد القوافي أنت معتصمي / أقل عثاري وأنقذني من الزمن أن كتب له في الورقة نفسها: وبما أن حفني مشهور ببخله٬ فما كان منه إلاّ يكاد شعرك يبكيني ويضحكني / ولم أزل ساخرا من ظنك الحسن فاقبل عطائي بلا شكر ولا غضب / فليس في جيبي والله سوى (شلن) وأعاد له الورقة مع شلن واحد٬ والغريب أن الرجل أخذه منه٬ وكأن لسان حاله يقول: (شعرة من جلد الخنزير فائدة). نقلا عن الشرق الأوسط