معروف أن جزءاً كبيراً من العلاج النفسي يقوم على قدرة الطبيب المعالج على تحريك عوالم المريض الداخلية، ودفعه للتنفيس عن ضيقه ومشاكله بواسطة الكلام. فقد تتضخم فكرة مزعجة، لتحتل جل فكر إنسان ما، لدرجة أنها تسيطر عليه وتعوقه عن ممارسة لحظة حياته بطبيعية. بل قد يزداد الأمر سوءاً حين يصعب على المريض العيش والتعايش بسلام مع تلك الفكرة المزعجة، ما يلزم معه التدخل العلاجي، لتخليصه من تلك الفكرة النزقة، وما يحيط بها من أوهام وتخيلات، أو توجيهه لإعادة النظر إلى أفكاره من زوايا مختلفة. وليس من طريقة سوى طمأنة نفسية المريض، حتى يستطيع البوح بالهواجس التي تضايقه، وبالتالي يتخلص من مخاوفه، ليستعيد عافيته وعلاقته الطبيعية المتزنة مع من حوله. البوح/الكلام، هو الدواء المسكِّن الذي لا يمكن لإنسان الاستغناء عنه، صغيراً أو كبيراً، صاحياً كان أو مريضاً، غنياً أو فقيراً. فوحده الكلام، المتعة المتاحة لبني البشر، قادر على التعبير عما يجول في خواطرنا؛ فكراً، علماً، خبراً، حبّاً، ضيقاً، ألماً وسراً، وقادر من جهة أخرى على ربطنا بالآخر. والكلام عينه هو جذر مادة الكتابة الإبداعية السردية؛ قصةً أو روايةً. وكم تبدو المسافة شاسعة بين كلام حلوٍ نقوله ببساطة نخاطب به المتلقي، وكلام نحوّله إلى كلمات مكتوبة، ليكون رسولنا إلى متلقين لا نعرفهم، وربما في غير مكاننا وزماننا. فما تراه يختلف حين يمر الكلام فوق جسر المشافهة إلى ضفة الكتابة؟ الشفاهة زاد اللحظة الأكثر انتشاراً بين البشر، لكن تحويل ذاك الزاد ليكون كتابة يحتاج إلى ما يلي: أولاً، معرفة قواعد اللغة. ثانياً، معرفة قواعد واشتراطات الجنس الأدبي المراد النقل إليه. ثالثاً، خلط الشفاهة بالمتخيل، ليكوّنا واقعاً فنياً أشبه ما يكون بواقع الحياة المعاش. رابعاً، أن يرتكز هذا مجتمعاً على وعي الكاتب تجاه القضايا التي تحيط به، إنسانياً ومعرفياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وغير ذلك. نعم، الكلام الشفاهي وسيلة للتداوي بين البشر، وهو كذلك حين ينتقل إلى الكتابة، لتصبح القراءة وسيلة هادئة ورائقة للتداوي. التداوي من وحشة الوقت، والتداوي من قلة التجربة الإنسانية، والتداوي من ظلم وقسوة الواقع، وأخيراً، محاولة عيش التجربة الإنسانية التي يقدمها النص للهناء والفرح بها. إن النظر إلى الكتابة السردية بوصفها تعتمد على عنصرين، هما: الوصف، والحوار بنوعيه؛ حوار الشخصية مع نفسها/المنولوج، والتحاور مع الآخر/الديلوج، يظهر أن نقل الوصف من الشفاهة إلى الكتابة، قد يبدو أسهل بكثير من نقل الحوار. ففي الوصف يقوم الكاتب بنقل ما يراه، وربما أضفى عليه حالة شعورية خاصة بناء على شغفه بالمكان. لكن، الحوار يحمل الكثير من السمات الظاهرة والباطنة، ويختزن الكثير من التفاهم بين الشخصيات، لذا يبدو سهلا ومفهوما بين المتحاورين. لكن نقل ذلك إلى الكتابة يحتاج إلى الكثير من الجهد، والذكاء والمراجعة، على أمل أن يبدو مطابقاً أو شبيهاً بحوار الواقع. الكتابة الإبداعية جهد إنساني تخييلي شاق، يتطلب وعياً وموهبة وذكاء، واطلاعاً واسعاً ومستمراً، اطلاعا أقرب ما يكون إلى دراسة الدارس، كل هذا كي تأتي مخايلة للواقع، حتى إن القارئ يصدقها بوصفها واقعاً، وهي بالمحصلة تشكّل سجلاً للتجربة الإنسانية، وإذا كانت تعالج من يقوم بها بوصفها عملاً منتجاً، فإنها تعالج من يقرأ بوصفها عيشاً يوازي عيش الحياة. في أمسية التكريم التي أقيمت للدكتور سليمان الشطي، في الملتقى الثقافي في فبراير 2016، وفي شهادته التي قدمها بالأمسية، قال إنه "يعتبر الكتابة نوعاً من العلاج وهروباً من أمراض الشيخوخة"، وكم تبدو هذه العبارة دالة، وخاصة إذا صدرت من شخصية بعمر وخبرة الدكتور سليمان!