×
محافظة المنطقة الشرقية

«مذيع اللقاءات الرسمية».. أحمد بصيلة: «الغد» فضائية تحترم عقل المتلقي العربي

صورة الخبر

كان سرور الموسيقي النرويجي إدوارد غريغ كبيراً حين كلفه مواطنه الكاتب المسرحي هنريك إبسن بكتابة الموسيقى المصاحبة لمسرحية «بير جنت» وكان ذلك في العام 1974. في البداية اعتقد الموسيقي الشاب أن العمل سيكون سهلاً، لكنه سرعان ما أدرك صعوبة الأمر فاستغرقه إنجاز تلك الموسيقى عامين وأكثر. وكانت تلك بالنسبة إليه فترة مضنية. لكن النتيجة جاءت استثنائية تناقض ما يقال عادة من أن الموسيقى المصاحبة تكون أضأل شأناً من العمل الفني الذي تصاحبه. فالحال أن الزمن احتفظ لموسيقى غريغ تلك بمكانة لا تقل عن مكانة مسرحية إبسن العظيمة. ومن المؤكد أن هذه القيمة الكبرى لـ «بير جنت» الموسيقية كانت هي ما حدا بغريغ، بعد تقديم المسرحية وموسيقاها معاً للمرة الأولى في العام 1876، الى تحويلها الى عمل موسيقي أوركسترالي يقدّم وحده بصرف النظر عن المسرحية نفسها. ولسوف يقسم غريغ الموسيقى الى مجموعتين من المتتاليات يحدث كثيراً أن تقدّم كل منهما وحدها: المتتابعة رقم 1 والرقم 2 علماً بأن بعض مقطوعات المتتاليتين سرعان ما بات يشكل جزءاً من التراث الثقافي النرويجي. > مهما يكن من أمر فإن مجموعتي المتتابعات اللتين تختصران زمن العمل الموسيقي كله الى النصف تقريباً، ظلتا لفترة طويلة من الزمان، كل ما تبقى من ذلك العمل الموسيقي الكبير. حيث إن الناشر يوهان هالفورسن تولى نشرها في العام 1908 بعد سنة من وفاة الموسيقي. أما النوطات وصفحات التوزيع الأوركسترالي الخاصة بالمسرحية نفسها والتي كانت قد اختفت بعد تقديم المسرحية لفترة في كامل أبهتها الموسيقية، فلم يتم العثور عليها إلا في العام 1980. ونتيجة هذا كله كانت هناك تسجيلات عديدة للمتتابعات تزعم كل منها أنها هي الصحيحة والنهائية يتألف بعضها من 33 مقطوعة والبعض الآخر من 49 مقطوعة. أما التركيبة النهائية للعمل والتي وضعها غريغ للمسرحية وقُدّمت في عرض أول معها فكانت، على عكس المتتابعات، تضم أداء للممثلين مصحوباً بموسيقى خلفية وأغان إفرادية وأغان للكورس. وتمتد على مدى الستة فصول التي تتألف منها المسرحية حيث إن الموسيقى حاضرة في كل فصل ومشهد وتواكب الحوارات والعواطف وتطور العلاقات بين الشخصيات وما إلى ذلك. أما مجموعتا المتتابعات فمختصرتان الى حد كبير بحيث إن المجموعة الأولى - التي تحمل الترقيم 46 في أعمال غريغ - لا تتضمن إلا أربع مقطوعات منتقاة من مشاهد المسرحية الأصلية هي على التوالي: مزاج صباحي، وموت آسي، ورقصة آنيترا وأخيراً في فناء ملك الجبال. هذا بينما كانت المتتالية الثانية (وترقيمها 55) تتألف من خمس مقطوعات لا يعرف أحد لماذا عاد غريغ وسحب منها واحدة هي «رقصة ابنة ملك الجبال»، بحيث صارت كالمتتالية الأولى تقتصر على أربع مقطوعات فقط هي: تنازل العروس شكوى إنغريد، الرقصة العربية - التي تبقى الأشهر بين المقطوعات كافة -، وعودة بير جنت الى الديار - وهذه المقطوعة التي تتضمن في طياتها مقاطع صغرى تتحدث عن مساء عاصف في أعالي البحار، تكشف حين تقارَن بما يوازيها في موسيقى المسرحية الكاملة أن غريغ قد ألحق بها نوطات إضافية بدلت من إيقاعها وجعلت لها خاتمة مباغتة قد تبدو متنافرة مع المقطوعة الرابعة والتالية التي هي عبارة عن أغنية لسولفيغ... وفي النهاية نجدنا أمام عمل موسيقي مكتمل رغم تشتته هو الآن الأكثر شهرة بين أعمال غريغ. > ليس كبيراً عدد الذين وصلوا الى العالمية من مبدعي النروج وفنانيها، ولكن من المؤكد أن الذي، منهم، يتخطى حدود بلاده الى خارجها، الى أوروبا أو الى العالم، يصل الى تلك العالمية بقوة وعن جدارة، بخاصة لأنه يكون في عمله متجذراً في تربة بلاده وأحوال مجتمعه وضروب التعبير الشعبي التي لا تفتأ تخلق تلك الموجات المتعاقبة من الإبداعات. وإذ نقول هذا تحضرنا أسماء كثيرة منها على سبيل المثل الرسام إدوارد مونش، والكاتب المسرحي هنريك ابسن، ولكن بخاصة إدوارد غريغ الذي كان طوال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر واحداً من أشهر الموسيقيين الأوروبيين، والغريب أن غريغ يكاد يكون أقل المؤلفين الموسيقيين الأوروبيين شهرة لدى العرب من متذوقي الموسيقى الكلاسيكية، مع أن واحدة من المقطوعات الموسيقية التي وضعها لـ «بير جنت»، تعتبر موسيقى عربية خالصة وهي تحمل على أي حال اسم «رقصة عربية»، وتضاهي في جمالها العربي جمال الموسيقى التي وضعها الروسي رمسكي - كورساكوف عن «شهرزاد» وعن «عنتر» بحيث يحق للمرء أن يتساءل عن السبب الذي يجعل شهرة هاتين القطعتين الأخيرتين، في العالم العربي، كبيرة بينما لا يعرف «رقصة غريغ العربية» أحد. > غير أن هذا ليس هو المهم طبعاً. المهم هو أن إدوارد غريغ لكي يكتب قطعته العربية التي لا تزيد مدة عزفها عن دقائق قليلة، انكب على قراءة ألف ليلة وليلة، وغاص فيما كان يعتبر في اوروبا فولكلوراً عربياً، واستمع الى العديد من قطع الموسيقى الرومانسية التي كانت أوروبا تكثر من تأليفها مرتبطة لديها بفكرة ما عن الشرق وعالمه السحري. > ولم يكن اهتمام غريغ بالفولكلور العربي صدفة في حياته، فهذا الموسيقي الفذ والذي اشتهر بتعمّقه بالدراسة وبتواضعه كان على غراره بيلا بارتوك، من أولئك الموسيقيين الذين عمدوا دائماً الى النهل من المنابع الشعبية الصافية للموسيقى، ومن هنا اتّسمت موسيقاه، في قطعها الصغيرة على الأقل، بحس شعبي جعلها محببة الى الناس قريبة الى الأذهان، ما أمن لصاحبها شعبية كبيرة، وجعل اسمه واحداً من الأسماء التي تخطر في البال ما إن يجرى الحديث عن المحلية التي تؤدي الى العالمية. > غريغ الذي مات عند مطالع القرن العشرين في العام 1907، عاش طوال حياته للموسيقى، وذلك منذ كان في السادسة من عمره حين راحت أمه تلقنه أصول العزف على البيانو. ولقد أبدى الصبي في ذلك الحين من المهارة ما جعل مصيره يتقرر باكراً: سوف يكون موسيقياً. هكذا قالت الأم ووافق الأب، وتكونت حياة إدوارد غريغ. وكان في الثالثة عشرة حين التحق بكونسرفاتوار لايبزيغ وبدأ يتأثر بموسيقى الثنائي شومان وماندلسون. وفي 1983 توجه الى كوبنهاغن حيث بدأ يتجه جدياً الى التأليف الموسيقى شراكة مع المؤلف الموسيقي الشاب ريكارد توردراك الذي بدأ يؤثر فيه من حيث اهتمامه بالموسيقى الشعبية والقومية. وهكذا في الوقت نفسه الذي راح فيه غريغ يكتشف موسيقى شعب الشمال، بدأ يكتشف طبيعته الخاصة، وامتزج عنده العاملان في بوتقة واحدة أنتجت خلال تلك المرحلة العديد من القطع والألحان ولا سيما الأغنيات الشعبية التي راحت تؤديها الفنانة نينا هاغرب، التي صارت زوجته وشريكته في حياتهما الموسيقية. > عند ذلك وبعد أن أسس نفسه محلياً، بدأ غريغ يتجول في بعض عواصم الموسيقى الأوروبية ولا سيما في روما التي التقى فيها هنريك ابسن وبدأ يكتب الموسيقى لبعض مسرحياته، كما التقى فرانز ليست الذي شجعه كثيراً لكي يواصل درب الاهتمام بالموسيقى الشعبية. > في 1866 كان غريغ قد أضحى مؤلفاً مكرساً وأقام في كريستيانا (الاسم القديم لأوسلو) حيث منحته الحكومة مرتباً سنوياً يمكنه من التفرغ للتأليف... لكنه ما لبث أن ملّ حياة الاستقرار وعاد يتجول في أوروبا حيث يقدم الحفلات الموسيقية ويعزف فيها على البيانو أجمل أعماله. ولقد أثر اتجاهه الشعبي في العديد من الموسيقيين الأوروبيين في ذلك الحين، بخاصة أن المشاعر القومية كانت قد بدأت تهيمن على قطاعات عديدة من المثقفين الأوروبيين. > بين العام 1867 والعام 1901، أنتج غريغ عدداً كبيراً من الأعمال الكبيرة من بينها «عشر قطع غنائية» للبيانو، كما ألف العديد من السوناتات والكونسرتو للبيانو، والرباعيات، إضافة الى كتابته لسوناتات عديدة للكمان. أما اشهر أعماله فتبقى موسيقى «بير جنت»، وموسيقى هولبرغ، إضافة الى اشتغاله المتواصل على الرقصات الشعبية النرويجية، وإعادة اكتشافه العديد من الأغاني الفولكلورية وتحديثها، بخاصة وضعه «الرقصات النورويجية الفلاحية»... وهذا كله جعل أوروبا تلقبه بـ «شاعر الموسيقى الشعبية».