النسخة: الورقية - دولي يتجه المغرب نحو أفريقيا، كما لو أنه يستحضر العقود الزاهرة لانفتاح كبير، امتد من غرب القارة الأفريقية إلى سواحلها الشرقية في أقصى السودان. وليس صدفة أن جولة العاهل المغربي الملك محمد السادس بدأت من دولة مالي التي كان يطلق عليها اسم «السودان الغربي» في فترة إمبراطورية تمبوكتو. ففي الخلاصة أن غياب الاستقرار وتزايد الصراعات في منطقة الساحل، لم يمنعا من البحث عن أرضية جديدة لوفاق مغربي – إفريقي. كما لم يحل انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الإفريقية التي استحالت إلى «الاتحاد الإفريقي» من تعميق علاقاته مع الدول الإفريقية. فإن الأوضاع السائدة في دول أفريقية شجعته على أن يطرح مقاربته في اعتماد أفريقيا على ذاتها، كي يصبح القرن الحالي مرادفاً لانتصار الشعوب، أي تكريس قيم الديموقراطية والتعايش والتنمية. بيد أن هذا التوجه الذي بدا لافتاً في اختيارات الرباط لا يعني بالضرورة التنكر لالتزامات الانتساب المغاربي ذي البعد الإستراتيجي. بعد أن طرح المغرب فكرة الشراكة المطلوبة بين دول غرب أفريقيا والاتحاد المغاربي، على أساس أن تكون مقدمة لحوار ثلاثي، أوروبي وأفريقي ومغاربي، كان لا بد من ترجمة هذا الطموح عبر مبادرات ملموسة. ولم ينتظر حدوث المعجزة لمعاودة تفعيل البناء المغاربي المتصدع، بل اتجه جنوباً لاكتشاف العوامل المشجعة لتقارب حقيقي، قد يدفع لاحقاً بدول الشمال الإفريقي، مجتمعة أو على انفراد، لاتباع ذات المسلك، خصوصاً حين تستنفذ طموحات الشراكة مع البلدان الأوروبية في شمال حوض البحر المتوسط حدودها الممكنة. ففي النهاية تظل أوروبا محكومة بهاجس الأزمات الاقتصادية والمالية والاتجاه شرقاً إلى الدول الأوروبية الخارجة من رحم المعسكر الشرقي. عندما تلقت الرباط حوافز أكثر تشجيعاً لتعزيز صلاتها بدول مجلس التعاون الخليجي، ردت بالترحيب الذي آل إلى إبرام شراكات متقدمة في غضون الإبقاء على التزاماتها المغاربية، والحال أن الانفتاح على إفريقيا لا يلغي هذه الالتزامات، لكنه يبحث في متنفس بديل عن سياسة الانكفاء. فقد جربت الدول المغاربية حصر اهتماماتها في ترتيب أوضاعها الداخلية. وكان الأمر بالنسبة للمغرب أكثر وطأة، نتيجة استمرار سريان إغلاق الحدود البرية مع الجزائر. ما يعني أنه في مقابل إغلاق النوافذ الشرقية انفتحت أبواب جنوبية على الفضاء الأفريقي الشاسع. بيد أن اكتشاف إفريقيا ليس جديداً، فقد اهتمت غالبية بلدان الشمال الإفريقي من بوغاز جبل طارق إلى قناة السويس، بترتيب امتداداتها الطبيعية، وبينما سارعت دول مشرقية إلى التطلع إلى جوارها الآسيوي اشتعلت القارة الأفريقية صراعات ونزاعات بين منظومة الشمال، إلا أن التاريخ يسجل للرباط والقاهرة أنهما استضافتا الإرهاصات الأولى لتشكيل منظمة قارية أفريقية تتحدث بصوت أفريقيا، يوم كانت تتطلع إلى التحرر. وباتت اليوم تنشد الاستقرار. في خلفيات أزمات أفريقية أن الأسلوب الذي سطرت به الجيوش الاستعمارية علامات الحدود ومكامن الثروات والموارد الطبيعية، إلى درجة ألغت الراوبط القبلية والحاجة إلى اقتسام مياه الأنهار، كان وراء الكثير من بؤر التوتر. إذ لا يكاد يخلو أي موقع إفريقي من حزازات حدودية أو عرقية زادت اشتعالاً في الآونة الأخيرة، من خلال استشراء حروب دينية مؤسفة. غير أن الشكوك التي كانت تساور عواصم أفريقية، يوم جاهرت بانتقاد نقل الخلافات العربية – العربية إلى الساحة الإفريقية، في طريقها إلى التبديد، لأن الأفارقة أكثر إصغاء لبعضهم، ومما لا شك فيه أنه يفضلون الصراحة والبساطة وأنسنة العلاقات بين الدول. لقد ضجروا أكثر من الاستخدام غير المتكافئ لعلاقات الجوار، لذلك يشكل الانفتاح المغربي على إفريقيا مدخلاً طبيعياً وسلساً لمعاودة ترتيب العلاقات المغاربية – الإفريقية، ومن خلالها العربية – الأفريقية. والأهم في غضون ذلك أن روحاً جديدة بدأت تسري في شرايين هذه العلاقات، وإن كانت ترتدي طابعاً رمزياً في البعد الاقتصادي، فإن الأمر يطاول رؤية جديرة بالتأمل، مفادها أن الجيو-اقتصادي في طريقه لأن يتغلب على الجيو- سياسي. والنهر تبدأ حمولته بقطرات. أفريقيا لم تعد منسية، ولكنها متعطشة لمزيد من المبادرات العربية التي تعيد للوئام العربي – الأفريقي نصاعته. وليس أقرب إلى العالم العربي من أفريقيا التي تضامنت معه بعد حرب تشرين 1973.