×
محافظة مكة المكرمة

مشروع خيري لمساعدة نزلاء الحقوق المدنية بسجون جدة

صورة الخبر

النسخة: الورقية - دولي مع ولادة نموذج الصناعة الرأسمالية الحديثة، انقلبت حملات التجويع أداة سياسية رمت إلى حمل جموع الرجال الأشداء المقيمين في أماكن ريفية، على بيع قوة عملهم. وكان الجوع وسيلة تطويعهم وإخضاعهم، لسوسهم سوساً «ناعماً» لا يخطئ هدفه. وكان بلوغ الهدف هذا يسيراً، ولم يقتض غير خصخصة حقول المشاع، على نحو ما حصل في بريطانيا في القرن السابع عشر، لحمل الأفراد على العمل في المصانع المدينية. وفي القرن الثامن عشر، ذهب جوزيف تاونسند إلى أن الجوع أمضى من القانون في إلزام الناس العمل في المصانع. وتزامن التوسع الصناعي مع تعاظم الحاجة إلى اليد العاملة. وحرمان البشر من الغذاء يقصرهم على طبعهم الحيواني والعضوي، فحين تقنَّن الحصص الغذائية وتقلص إلى عتبتها الأدنى، على قول الاقتصادي ديفيد ريكاردو، وتحدد قيمة الراتب بما يكفي سد الرمق وبعث قـوة العمل، يسقط من الحسبان البعد الرمزي – وقوامه قـواعد اجتماعية وعادات طهو متنوعة - لتناول الطعام واختيار الغذاء من قائمة متنوعة، فمن يتضور جوعاً لا يملك غير تناول المتاح من غير مفاضلة ولا اختيار. وفــي بعض الأحوال، قد يبلغ به الأمر مبلغ تناول النفايات، على غرار قشور الثمار والنبات، فيضطر الإنسان إلى لفظ إنسانيته وتغلب عليه صبغته الحيوانية، ولكنه -على خلاف الحيوان الحر والمتوحش- مقيد اليد. والمجاعة العمد -وهي غالباً ما تنتهي إلى موت السجين أو المحاصر- هي اغتيال من غير سلاح آلي، فالقاتل لا يتواجه مع ضحيته، بل يقيد وصول الغذاء إلى المحاصرين ويقنن سبل البقاء من طريق الحصار. وعلى خلاف العنف الكلاسيكي الذي ينزل الموت بالخصم من غير إرجاء، وتيرة التجويع بطيئة وأمدها طويل. وفي المجاعات، يقضي المرء «على يد» جوعه ويروح ضحية له وليس بضربة يوجهها آخر إليه، على نحو ما يحصل في الحروب. ورست حملات التجويع على 3 أشكال: في الحروب يحرم السجناء من الغذاء الحيوي للبقاء على قيد الحياة. وهذا الإجراء غير إنساني، لكنه إجراء «عادي» و «كلاسيكي». وصاغ النازيون خطة احتلال أوروبا الشرقية لاحتلال «الحيز الحيوي». ويقضي المخطط هذا، المعروف بـ «جينرالبلان أوست»، بالسيطرة على السكان و «إدارتهم» أو تولِّيهم، وبشن حملة تجويع قوم السلافيين، واستتباع غيرهم من الأقوام والحط من مرتبتهم إلى مرتبة الرقيق في خدمة الآريين. والمجاعة كانت كذلك سلاحاً في معسكرات الموت: المعتقلون القادرون على العمل لا يقتلون على الفور، بل بعد أن تُستنفَد قوتهم في أعمال شاقة، فتستغل قوة عملهم ويحرمون من الطعام إلى أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة. وتساءل الطبيب في أوشفيتز، هانس ميونخ، عن مدة صمود المعتقل الجوعان الذي يتناول يومياً 1000 سعرة حرارية فحسب. والانشغال بإرساء أسس منطقية لعملية التجويع ملفت، ويسمى الانشغال هذا اليوم بـ «إدارة» الموت، والتسمية هذه تُبرز أوجه الشبه بينها وبين سبل احتساب الاقتصاديين الليبراليين كلفة قوة العمل في المرحلة الصناعية. ورمت المجاعة في معسكرات الاعتقال إلى إنزال القصاص بالمعتقلين. ولكن نوع القصاص جوهري في فهم النازية، فهذه العقيدة ترى أن اليهود راكموا الأموال، وتتهمهم بالسطو على الثروات الغذائية المزروعة في الأراضي الداخلية، أي في «الحيز الحيوي» الذي يفترض أن تعود خيراته إلى الألمان الأقحاح، أي الآريين. وعليه، فإن تجويع رجل يهودي يساهم في تقويم التوازن الذي اختل إثر استهلاك اليهود الثروات الغذائية. ويجلو الجوع القاتل على صورة تقويم اعوجاج وتطبيع. ويردف هذا الداعيَ العقائديَّ الأيديولوجي داعٍ اقتصادي: استنفاد قوة المحكومين بالموت إلى آخر رمق من غير تحمل أوزار تكاليف كبيرة. وتفادي المجاعة كان ذريعة تعاظم الإنتاج الزراعي. والذريعة هذه تعود إلى القرن الثامن عشر إثر إعلان مالتوس أن قدرات الإنتاج الزراعي محدودة، وأن ارتفاع معدلات النمو السكاني المطرد يؤدي لا محالة إلى خطر الشح والموت. واليوم يدعو خبراء وسياسيون وشركات غذائية إلى توسيع الإنتاج الزراعي، ويقولون إن مثل هذا التوسيع حيوي ولا غنى عنه لتوفير الغذاء لـ10 بلايين نسمـــة في 2050. وهذه الحجة تسوقها شركات في سبيل إبراز الحاجة إلى الأغذية المــــعدلة جينياً وتوسيع رقعة زراعتها، وترسيخ ثقافـــة تقبل على هذا النوع من المزروعات. ولكن ما يساق في غير محله، ولا يجوز قصر التفكير في حاجات البشر الغذائية على تفكير تقني وغذائي وحسابي يحتسب السعرات الحرارية فحسب، كما لو كانوا من المواشي. وثمة من يرفع لواء نماذج زراعية صديقة للبيئة في الأمم المتحدة من أجل جبه الازدياد السكاني. ولم يندثر الجوع ولا المجاعات في العالم الحديث. وقد يلم الجوع بأصحاب البطون الممتلئة، فالحرمان من الطعام ليس فحسب وراء الشعور بخواء البطون وقرقعة الجوع. ولا تحسب عتبة الجوع قياساً إلى الوحدات الحرارية أو الكميات الغذائية. والعتبة بين الحاجات الغذائية والرغبات متهاتفة. والجوع شعور ذاتي. وتعريف الشبع والجوع لا يجلو على صورة واحدة، وهذه حال المصابين بالأنوريكسيا (فقدان الشهية) والنساك والمضربين عن الطعام. وقد يشتد الجوع بالمرء ولو تناول ما يكفي من سعرات حرارية. واحتمال تناول ما يفوق حاجتنا إلى الغذاء هو سمة إنسانية. وفي مقدورنا تناول الطعام من غير الشعور بالجوع، فهذا قد يكون مرسلاً إلى ما لا حدود أو نهاية. وهذه حال المصاب بالبوليميا (النهم أو الشره المرضي). وذيوعها في المعمورة كلها وثيق الصلة بالعالم الصناعي. وهي أفضت إلى ظاهرة غير مسبوقة في التاريخ البشري: ذيوع البدانة. وفي الماضي، كان الفجع شأناً شخصياً، واليوم صارت البدانة شأناً عالمياً. والوجبات الخفيفة المتناسلة هي صنو تناول الطعام من غير انقطاع، كما لو أن سبحة «السناك» ترجئ الشبع إلى ما لا نهاية.     * أستاذ فلسفة، عن «ليبراسيون» الفرنسية، 16/2/2014، إعداد م. ن.