النسخة: الورقية - دولي ما الذي يجمع بين روبرت فورد وبشار الجعفري؟ انهما يدافعان عن سياسة لم يعد ممكناً الدفاع عنها. أما الفوارق بينهما فكثيرة جداً، إذ إن فورد مستاء ويعتزم مغادرة منصبه، في حين يبدو الجعفري متمتعاً بتمثيل نظام القتل. والمسألة عند فورد ليست مجرد تعاطف مع الشعب السوري، لكنه لمس من موقعه أخطاء واشنطن ونتائجها المباشرة وغير المباشرة ووجد نفسه مضطراً للتنكّر بأكثر من وجه، إمّا للتكيّف معها أو لتبرير ما لا يبرّر. فـ «الغموض البنّاء» الذي اعتمده البيت الأبيض، ظلّ غموضاً فحسب، بل غدا قاتلاً إنْ لم يكن مساهماً في استشراء الارهاب في سورية. ومنذ بداية مؤتمر «جنيف 2»، أيقن الجعفري أن اللعبة تغيّرت، لأن التفاوض مع «الائتلاف» المعارض شيء وتكليف وفد النظام بخوض ثرثرة تفاوضية عقيمة شيء آخر. والمسألة عنده عاطفية جداً، فهو من صلب النظام، لكن صانعي القرار في دمشق لا يعترفون بمعايير التعاطي مع المجتمع الدولي. فالتلفيق كان متاحاً ما دام الصراع مع أوهام «المؤامرة الكونية». أما التفاوض مع وفد الشعب، فلا بدّ من أن يخضع لمعيار لا يفقهه النظام ولا يحبذه: الحقائق. قبل أن يبدأ، كان «جنيف 2» ولا يزال اطاراً لكشف الوجوه والأدوار. فالنظام السوري صار معروفاً الى أبعد حدّ وشكّلت له المفاوضات فرصة لطي صفحة الوحشية، فرفسها ليؤكد أن كل ما يمكن توقعه منه هو المزيد من التوحّش. أما «الائتلاف» الذي أثبت تلهّفه الى حل سياسي يوقف النزيف فاستطاع، على رغم كل ما تعانيه المعارضة من فوضى وتفتت، أن يعبّر عن حقيقة موقف غالبية الشعب التي أتعبتها الحرب، بمن فيها من ثوار مقاتلين أو معارضين صامتين أو حتى مؤيدين للنظام. فالجميع يريد نهاية لهذه المحنة، لكن ليس أي نهاية، وبالطبع ليست النهاية التي تبقي النظام كأن شيئاً لم يكن. جاء وفد النظام الى جنيف ولديه استراتيجية واضحة لمهمة واحدة: إفشال المفاوضات. لماذا؟ لأن السير بلعبة «جنيف 2» مجرد مسايرة تكتيكية للحليف الروسي، الذي تفاهم الايرانيون معه على أن الخطط العسكرية سـتــبقى نافذة الى أن يتمّ «الحسم»، وعندئذ إمّا أن يـصار الى التفاوض في ضوء موازين القـوى على الأرض، أو يضطر الطرف الآخر للانـسـحاب من المـفاوضـات. أما وفد «الائتلاف»، فجاء للبحث في شراكة «الحكم الانتقالي»، ولا يعني ذلك سذاجة من جانب المعارضة، فهي مثل الأمم المتحدة ومبعوثها تلقّت من الاميركيين والروس تأكيدات بأن موضوع التفاوض هو هذا، بدليل ما سبق وما تلى «تفاهمات كيري - لافروف» في 07/05/2013 في موسكو، وأيضاً القرار 2118، وكذلك الرسالة التي وجـّهـها بان كي مـون للـدعوة الى الـمؤتـمر. أصبح معروفاً الآن أن روسيا كانت تراوغ، منذ خدعة سيرغي لافروف لهيلاري كلينتون عشية «جنيف 1» وصدور بيانه (المعدّل) في 30 حزيران (يونيو) 2012 حتى اللحظة التي أدرك فيها الاخضر الابراهيمي أن وفد النظام لم يأتِ للتفاوض. وبالتالي، فإن ثمة في «تفاهمات كيري - لافروف» ما لا يعرفه أو أنها فجأةً لم تعد فاعلة. كان الابراهيمي وضع معظم رهانه على الدعم الروسي القوي لـ «الحل السياسي»، ولعله تأكد أخيراً من أن مراهنته أيضاً على «دعم» ايراني لمثل هذا الحل كانت مجرد سراب. اذاً، فالموقف الحقيقي لموسكو هو ما ظهر في أداء وفد النظام. وعلى سبيل الاستيضاح، كان الاجتماع الثلاثي (ويندي شيرمان وغينادي غاتيلوف والابراهيمي) على هامش «اللامفاوضات». ولمزيد من الوضوح، دخل الاميركيون والروس في اشتباك كلامي مواكب للمبارزة الديبلوماسية في مجلس الأمن. انزعج الروس من مشروع قرار يلزم نظام الأسد بإيصال المساعدات الانسانية في شكل أفضل، فلوّحوا بمشروع مضاد وبآخر يتعلّق بـ «مكافحة الارهاب» من قبيل المؤازرة لوفد النظام الذي قال: «نتفاوض أولاً على مكافحة الارهاب، ثم على كل شيء». أراد الروس دائماً إبعاد الأزمة عن مجلس الأمن، وأصروا على أن «جنيف 2» هو المكان المناسب للبحث في أي ملف، بما في ذلك الاغاثة. قد تكون المواجهة الحاصلة في اوكرانيا سبباً لانعكاس انفعال روسيا على مفاوضات جنيف، لكن الواقع أظهر أن موقفها تماهى في كل المراحل مع موقف نظام دمشق. ثم إن فشل الجولة الأولى من التفاوض في التعامل مع الوضع الانساني دفع القوى الدولية للعودة الى مجلس الأمن بهدف الضـغـط على دمـشـق وموسـكـو معاً. عادت اذاً ديبلوماسية «الدب الروسي»، لكن مافيات موسكو لا تهتم بالاتهامات الموجهة اليها، ومن اعتقد سابقاً أنها لا «تبلف»، فقد أخطأ على حسابه، ومن يقول اليوم إن الخديعة الروسية تكلّف الشعب السوري آلاف الضحايا، فإن موسكو لا تبالي طالما أن ايران تدفع نقداً ثمن كل الاحتياجات العسكرية للنظام، أو بالأحرى احتياجاتها لأن رجالها ومقاتلي «حزب الله» والميليشيات العراقية هم الذين يحاربون في القلمون والغوطة وفي نواحي حمص وحلب. لكن الانكشاف الاميركي هو ما بدا الاسبوع الماضي مخزياً ومروّعاً. فـ «جنيف 2» كان ورقة التوت التي تغطي «العجز واللاإرادة السياسية»، وها هي قد طارت. فمن بين الأطراف الدولية، وحدها ادارة باراك اوباما رفضت ادراك أن موسكو تخدعها جهاراً ونهاراً، والأسوأ أن تكون أدركت واستمرّت في اللعبة لانعدام خيارات اخرى. فالوزير جون كيري الذي أعلن أن الادارة تعتزم مراجعة سياستها وأنها تبحث عن بدائل «قد تجدها وقد لا تجدها»، هو من أسرّ للسيناتور جون ماكين بأن البيت الأبيض «يعطي ديبلوماسيتنا رصاصات مفرّغة لتحارب بها»، وهو أيضاً من يعرف أن أياً من الديبلوماسيين المؤهلين لا يرغب في الحلول محل روبرت فورد المغادر، ليس لصعوبة المهمة، بل لأن السياسة المرسومة تقيّد المكلّف بالمهمة. أما «البدائل»، عدا الحرص على إبقاء اطار جنيف، فلا بدّ من أن تكون لمواجهة خيارات معروفة للروس والايرانيين فضلاً عن نظام الاسد. انهم يريدون حرباً مفتوحة، يرعون ارهابيي «داعش» ويشكون منهم، يشيرون الى الدول الداعمة للمعارضة ويعرفون أن اميركا تمنعها من توفير سلاح نوعي للمقاتلين، يرتكبون الفظائع ويتهمون المعارضة بها الى حد أن بشار الجعفري أورد في احدى الجلسات لائحة بالمجازر التي نفّذتها قوات النظام على أنها من ارتكابات المعارضة. رفضت واشنطن دائماً تسليح المعارضة مباشرةً أو من خلال حلفائها، مستندةً الى أمرين: احتمال وصول السلاح الى أيدي ارهابيين، وتفاهمها مع موسكو على «حل سياسي» يوجب منع المعارضة من أي انتصار عسكري حتى لو كان متاحاً... ونفّذ الاميركيون ما تعهّدوه، فأدّى الى نتائج معاكسة تماماً لما توقعوه، فيما نفّذ الروس ما تعهدوه للنظامين السوري والايراني - وليس للاميركيين - وتوصلوا الى النتائج التي توخّوها. عندما يصرّ النظام على أن يقتصر التفاوض على «مكافحة الارهاب»، فذلك يعني أمرين: 1) إنه الوحيد المؤهل ببنيته العسكرية والأمنية لهذه المهمة، ولذلك 2) فهو لا يرى مفاوضاً آخر غير الدول الكبرى وبالأخص الولايات المتحدة، وبالتالي فهو غير معني بالتفاوض مع «الائتلاف» المعارض. وإذا كان النظام وضع المفاوضين على «لائحة الارهاب» لتبرير استيلاء «الشبيحة» على أملاكهم، فإن الناطق باسم وفده في جنيف عرّف «الارهابي» بأنه «كل مَن يعتدي على المواطنين وعلى الحكومة». هل يعودون الى جنيف؟ هذا يتوقف على «تفاهمات» اميركية – روسية منقّحة أو جديدة. وفي الانتظار تتجه الأنظار الى الجبهات، اذ ستكون هناك جولة قتالية قبل الجولة الثالثة للتفاوض. * كاتب وصحافي لبناني