بيروت:ألبير خوري بمجرد اعتلاء جاهدة وهبة خشبة المسرح، ينصت الجمهور احتراماً لحنجرة تنشد السماء والأرض معاً، مخطوفاً إلى صوت يعلو ويهبط، يثور ويهمد. يحفر عميقاً في القلوب والأحاسيس، ويحفّز على التصفيق والآه تلو الآه. حتى إذا استكانت الأيدي والآهات، عادت جاهدة إليه، أكثر ألقاً وسحراً. يأتي الصوت مزهواً وفرحاً، متفرداً ومتميزاً في الحضور والموسيقى والشعر والأداء والإخراج، وعلى معرفة وثيقة من خلال اختصاصها بعلم النفس، بكل من يأتي لسماعها، أو لينشد معها في قلعتها الفنية الأصيلة، أو لمشاركتها في أُغنيات صوفية لإنسان لا تتوزعه حدود ولا طوائف ولا سياسات. على هذا الإيقاع، غنّت جاهدة وهبة في حفلتها الأخيرة في بيروت احتفاء ب20 مسرح المدينة. هكذا حالها الإبداعي دائماً في كل حفل أو مهرجان، تستعير من الزمان حضوره الأبدي، ومن المكان عظمته الفنية والثقافية. هي ذاتها، في لحظات الغناء والإنشاد والتجلي، تجهل لماذا ولمن وكيف تغني؟ يستحيل أن تطرح عليها السؤال، إلا وتفاجئك بردود فلسفية وجودية مقرونة بثقافات معمقة من أزمنة وأمكنة مختلفة، يجمعها عشقها للأغنية العربية لتهديها أوتاراً صوتية تعجّ بالنغمات الحالمة، بألحان وهاجة وأداء مبهر قوي يتحدى الميكروفون، وفي كل ذلك، تهدينا وهبة ثقافة على طبق من دهشة. هكذا حال جاهدة وهبة المتجذرة في ناسها والآخرين في باقة إنسانية واحدة. الشاعرة والملحنة والمغنية والمخرجة وعالمة النفس. مواهب تواكب الواحدة الأخرى، لتتوهج صوتاً وحضوراً على الخشبة. أليست هي كاهنة المسرح كما أطلقت عليها الصحافة الغربية، يوم أنشدت العام الماضي أمام الفرنسيين أُغنيات أديث بياف احتفالاً بمئوية ولادتها. ولاقاها الجمهور بحماس أكبر عندما أنشدها أغنية بياف الشهيرة ne me quit pas، في رجاء خاص على أن تستكمل حفلها. تتذكر وهبة هذا الحفل الفرنسي، وتستعد لمعاودته في فترة قصيرة بعدما تستكمل أجندتها الفنية حتى نهاية العام الحالي. تقول: شاركت الغناء أخيراً بحفل ختام مهرجان قرطاج السينمائي، وأستعد لحفلتين في بلجيكا. وفي مطلع العام الجديد لديّ حفل كبير مع الأوركسترا الشرق عربية، في لبنان بقيادة وإدارة وتوزيع الدكتور عبد الله المصري في أول تعاون بيننا. هذا على الصعيد العملي، لكن أجندة جاهدة وهبة زاخرة بأعذب الألحان وأطايب الشعر بينها وذاتها. إلى جانب اهتماماتها كسفيرة لمجلس المرأة العربية، وهو مسؤولية وليس شرفاً ولا ترفاً، يأتي لخدمة المرأة العربية، المكافحة دائماً لتجد مكانها اللائق في زمانها ومكانها، حسب ما تقول. يضاف إلى ذلك متابعتها العلمية المكثفة لثقافات الموسيقى والشعر والغناء على الساحتين العربية والعالمية. تقول: يحدوني إلى ذلك إخراج الأغنية العربية من هبوط يزداد اتساعاً وعمقاً في زمن الفوضى والغناء بالأجسام. أتطلع للخروج من الاستهلاك الغنائي وكرنفالات الضجيج والابتذال اللحني والشعري والأدائي. ولو لم أكن على هذا الصمود والتحدي، لما حصل اختياري عام 2013 من جامعة كمبريدج الإنجليزية، لأكون من ضمن 2000 شخصية مثقفة في هذا القرن يخصّص لسيرتها ملفّ كامل ضمن صفحات معجم الجامعة العالمي. تعود وهبة لتستخرج كلماتها من الخبرة والتجربة، وبكل ما يليق بفنانة مثقفة بامتياز. تعيش الأغنية ولا يستهلكها سوقها الخدماتي أو التجاري، والاستهلاكي. توضح قائلة: أُغني وجع الناس وأحلامهم وتطلعاتهم. أغني لأجمع الناس، وأحرضهم على الجمال. في كل ما قدمته في ألبومي كتبتني وشهد من ألحاني وإنتاجي، أُجدّد الأمل بالعودة إلى الأصالة أراني حبل صرة مع موروثنا الثقافي وهويتنا وحضارتنا. وتضيف: الفن وقود الأمل، وصوتي منديل مغمّس بدمع الناس، في زمن عمّت الفوضى فيه وأصبح الروتين ملازماً للأغنية العربية. كلام كبير عن خطايا كثيرة، عبّرت عنه صاحبة مزامير وهو ألبومها الأحدث، بأناشيد وصفتها برسالة سامية ضد الظلامية والتعصب وانتصار للإنسانية. ولفتت إلى أن الألبوم هستيريا جماعية فنية تتداخل فيها الأفكار الثورية والتحررية والقديمة والأغنية الاستهلاكية. تقول: أصبح الغناء في أغلبه من نوع (فاست فود)، سلعة تحضّر وتعدّ للبيع والاتجار. وباتت شركات الإنتاج الكبرى تتحكم بالذائقة الفنية، بسيطرتها على أهم المهرجانات والفضائيات العربية واقتحام أضخم تقنيات التصوير الفيديو كليب وذلك للتغطية عن أخطاء وجرائم الفن، خصوصاً في الأغنيات الفارغة والمسطحة. جاهدة تربط كلامها بفعل وإنجاز. هي التي غنت للحلاج، وأنسي الحاج، وطلال حيدر، وأبو فراس الحمداني، وأحلام مستغانمي وغونتر غراس، ومثلت وكتبت وغنت، نجحت لارتباط صوتها بالقضايا الإنسانية منذ اختارت الفن رسالتها. تقول: اهتمامي بالفن عتيق عتق وعيي. صرت لا أسعى لتقديم الجمال في مسيرة فنية واحدة، إنما متعددة الاتجاهات والوسائل والأدوات. جاهدة لا تغفو عن نجاحات تعتبرها عابرة الزمان والمكان، ولا تقف عند شهرة تقضي عليها المكابرة والأنانية. تضيف: أحلامي تتوسع وتزداد عمقاً كل يوم، وما يجعلها متوقدة على الدوام أنها في اتجاه فن يناصر الحق والخير والجمال. كلمة جميلة، لحن غني ومتنوع وأداء راقٍ ومؤثر.