في إطار مشروعنا الذي بدأناه عام 1990، لتوصيف العالم المعاصر خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبداية الاضطراب السياسي العالمي، صغنا أولاً نظرية أطلقنا عليها النموذج التوفيقي، تنبأنا فيها بأنها ستحدث عمليات تأليف خلاقة بين متغيرات كان يظن أنها متناقضة بحكم سيادة الأنساق الفكرية المغلقة، بحيث يعتبر أنصار كل نسق أنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة. كانت هذه محاولة للتنبؤ بمستقبل العالم. غير أن المحاولة شابها في الواقع خطأ نظري من جانبي، مبناه أنه لا يمكن استشراف المستقبل إلا إذا كان العالم يتّسم بالثبات النسبي مثلما كانت الحال في عصر الحرب الباردة حيث كان مقسماً بين العالم الأول الرأسمالي والعالم الثاني الاشتراكي والعالم الثالث الذي كانت نظمه السياسية خليطاً من الرأسمالية والاشتراكية. وهكذا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار التوازن النسبي في العالم، سادت عبارة أساسية ترددت في أدبيات العلاقات الدولية مبناها «أننا نعيش في عالم يتسم بعدم اليقين وعدم قدرة الباحثين على التنبؤ بمستقبله». لذلك، شرعت في بحث جديد يقوم على أساس القراءة الواقعية لمفردات النظام العالمي الجديد الذي بدأ يتشكل ببطء وإن كان تطبيق مفرداته أخذ يشقّ طريقه بوتيرة منتظمة. وهكذا صغت نظرية «الثورة الكونية» والتي شرحت أبعادها في كتابي الذي صدر في القاهرة عام 1995 عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، وكان عنوانه «الوعي التاريخي والثورة الكونية». وهذه الثورة مثلثة الأبعاد فهي ثورة سياسية وثورة قيمية وثورة معرفية. وبعد ذلك، هبت عواصف العولمة على العالم وبدأت تتضح المعالم الرئيسية لتحولات النظام العالمي التي تعقبت، عبر سنوات عديدة، تشكلها وتطوراتها ووضعها الراهن. والواقع، أنني استطعت بلورة هذه التغيرات العالمية بناء على قراءة دقيقة للتفاعلات السياسية والفكرية والثقافية الكبرى التي دارت طوال القرن العشرين. ولم يشأ القرن العشرون أن ينتهي ليسلم زمام البشرية إلى القرن الحادي والعشرين، قبل أن يحسم حسماً نهائياً المناظرة الكبرى التي دارت في جنباته بين الرأسمالية والماركسية. وليس هناك من شك في أن ثورة تشرين الأول (أكتوبر) الكبرى 1917 في الاتحاد السوفياتي، والتي ترتب عليها نشوء نظام سياسي جديد لم يشهد العالم مثيلاً له من قبل، كانت من أهم أحداث القرن. فللمرة الأولى في التاريخ، تترجم أيديولوجية سياسية صاغها في صورتها النهائية مفكر واحد هو كارل ماركس، إلى نظام سياسي عالمي لم يقنع بالتطبيق في بلد واحد هو الاتحاد السوفياتي، لكنه امتد إلى قارات متعددة. فشهدنا تطبيقاً له في آسيا حيث تبرز التجربة الصينية، وفي أفريقيا وفي أميركا اللاتينية. ومنذ نشأ هذا النظام، شنّت ضده الحملات العسكرية والسياسية والدعائية والإعلامية، وكرس مفكرون غربيون عديدون حياتهم العلمية للهجوم عليه، وتفنيد أسسه الفلسفية ودعائمه الاجتماعية والاقتصادية. وفي مقابل ذلك، قام المعسكر الاشتراكي بحملة مضادة على الرأسمالية والإمبريالية والديموقراطية الغربية. وهكذا هيمن على مناخ القرن العشرين هذا الصراع الضاري بين الماركسية والرأسمالية، الذي اتخذ أبعاداً بالغة الخطورة، تمثلت في سباق التسلح النووي، الذي وضع البشرية كلها على حافة الخطر. ودارت المناظرة – المعركة – وكل فريق يتوعد الآخر بقرب هزيمته الكاملة. غير أن الرأسمالية أثبتت، بما لا يدع مجالاً لأي شك، قدرتها على تجديد نفسها، واستفادتها من النقد الماركسي في تطوير مشروعها، في الوقت الذي جمدت الماركسية جموداً شديداً، على رغم المحاولات الجسورة لإنقاذ المشروع الاشتراكي من الفشل، سواء من خلال الممارسات النظرية النقدية التي أرادت أن تقدم قراءة جديدة للماركسية، ربما من أبرز صورها محاولة الفيلسوف الفرنسي لويس التوسير، أو من خلال الممارسة السياسية، خصوصاً محاولة «الشيوعية الأوروبية» التخلي عن بعض المسلمات، في سبيل التكيف مع النظام البرلماني الأوروبي، وقبول فكرة الوصول إلى الاشتراكية من خلال الانتخابات. غير أن هذه المحاولات - نظرية كانت أو سياسية - فشلت فشلاً ذريعاً، لأسباب متعددة ليس هنا مجال الخوض فيها. غير أنه من قبيل التسرع الزعم أن المناظرة بين الماركسية والرأسمالية قد حسمت نهائياً لمصلحة الرأسمالية. ذلك أنه، على سبيل اليقين، سقطت الشمولية كنظام سياسي، غير أن الخلط بين الشمولية والماركسية باعتبارها أيديولوجية تنطوي على عديد من القيم والأفكار الخاصة بالعدالة الاجتماعية ومنع الاستغلال وحرية الإنسان، والعمل على تنمية كل قدراته الإبداعية، يعد خلطاً للأوراق. فكثير من هذه القيم الإيجابية وجد طريقه إلى النظرية الغربية ذاتها، لأنه يعبر عن قيم إنسانية عامة، أثبتت الخبرة التاريخية أنها جديرة بأن تتبع. ومن هنا يمكن القول أن فهم ما حدث في العالم لا يمكن أن يتم في شكل موضوعي لو بني على أساس «المنهج الاستقطابي»، إن صح التعبير، الذي يميز تمييزاً فاصلاً بين الماركسية والرأسمالية، كما يتم التمييز بين الأبيض والأسود. ذلك أنه عبر مرحلة تاريخية طويلة، تمت فيها عملية التأثر والتأثير، ومن خلالها انتقلت الأفكار والتجارب من نظام إلى آخر، في صمت ومن غير إعلان رسمي. وهذه العملية البطيئة المعقدة، لا يغني في فهمها سوى مدخل التحليل الثقافي، الذي يركز على أنظمة الأفكار في نشوئها وتحوّلها وتغيرها. ومن هنا، فإن تتبع الرحلة الطويلة التي قطعها العقل الغربي بعد الحرب العالمية الثانية حتى الآن، سواء في شقه الماركسي أو الرأسمالي، هو الذي يسمح لنا بفهم ما حدث من انقلابات سياسية وتغيرات اقتصادية. فما السياسة في النهاية سوى مشروع ثقافي، والملاحظة نفسها تسري على الأنساق الاقتصادية التي تنهض في العالم على أساس مجموعة متماسكة من القيم الثقافية. ولو تتبّعنا ما حدث في العالم في الفترة الأخيرة، لوجدنا أن مقولات المنهج الجدلي تنطبق بشدة عليه. فإذا كان سقوط الماركسية يمثل الفكرة، فإن صعود الرأسمالية والزعم أنها ستكون هي الأيديولوجية الكونية المقبلة يمثلان في الواقع نقيض الفكرة. غير أننا نرى، من خلال قراءة دقيقة للتحولات العالمية، أن المحصلة النهائية ستتمثل في عملية تأليف خلاقة بين الماركسية والرأسمالية، من خلال صوغ نموذج عالمي جديد يتسم بالتوفيقية بين عناصر فلسفية وثقافية واقتصادية وسياسية، كان يرى من قبل أنها متناقضة. ومن هنا يأتي منهجنا في قراءة تغيير العالم، فبعد أن أشرنا إلى سقوط الشمولية وصعود الرأسمالية، قدمنا تصورنا عن النموذج العالمي الجديد، الذي يتشكل ببطء من خلال معارك بالغة الحدة والعنف، أخذت شكل تصفية الحسابات التاريخية في نهاية القرن العشرين، تمهيداً لإعداد المسرح للألفية الثالثة. والواقع أنه لو أردنا أن نرسم خريطة معرفية شاملة للمجتمع العالمي لاكتشفنا أن هناك تغيرات كبرى لحقت ببنيته سبق أن أطلقنا عليها اسم «الثورة الكونية». وهي الثورة التي استدعت تأسيس مشاريع فكرية كبرى تحاول أن تصوغ سياسات فاعلة لمواجهة تحديات هذه الثورة، وقد يكون أبرزها مشروع الثورة العالمية. ولو أردنا أن نعدد التغيرات الكبرى التي لحقت بتكوين المجتمع العالمي، لقلنا إنها تكاد تنحصر في خمسة تغيرات: أولاً: من المجتمع الصناعي إلى مجتمع المعلومات العالمي. ثانياً: من الحداثة إلى العولمة. ثالثاً: من الأمن النسبي إلى مجتمع الخطر. رابعاً: من الأمن القومي التقليدي إلى النموذج المعلوماتي للأمن القومي. خامساً: بزوغ نموذج حضاري جديد. وندرك منذ البداية، أن الإحاطة بكل المشكلات النظرية والمنهجية والتطبيقية الخاصة بكل تحول من هذه التحولات تتجاوز حدود مقالاتنا، لذلك سنقنع في ما بعد برسم الملامح الرئيسية لكل تحوّل. * كاتب مصري