النسخة: الورقية - سعودي لا يمكن التعاطي مع الأفكار والآيديولوجيات بطريقة تعاطي أرباب الموضة مع الأزياء أو موديلات السيارات أو ما يشبههما من منتجات استهلاكية. ففي عالم الأفكار ندخل في معطى زماني مختلف، فلا يمكن قياس الأفكار والآيديولوجيات بمنطق الجديد والقديم وكأنها ملابس أو أحذية، فالأفكار قديمة بمعنى ما، وحديثة بمعنى آخر، متغيرة بحسب سياقات إنتاجها وما تعالج. فتجد الفكرة نفسها تظهر بتجليات مختلفة بحسب ما يستثيرها. فمن يتحدث عن رفض فكرة لأنها قديمة هو يقول بطريقة أخرى إنه لا يفهم إمكانات الفكرة، مسارات إعادة إنتاجها. يمكن ضرب عشرات الأمثلة على هذا، فالحداثة تبدو قديمة جداً بالمعنى الزماني لو تحدثنا عن مخاضات التأسيس، وأقدم لو أعدناها لجذورها في عصر النهضة الأوروبية، لكن لو أردنا قراءة إمكاناتها لوجدناها حديثة جداً وقابلة للاستثمار بطرق شتى ولقراءات متعددة لا حد لها. ها هو طه عبدالرحمن - مثالاً - يقرأ الحداثة في شكل مختلف في كتابه «روح الحداثة» الذي صدر قبل أعوام عدة، فيراها منتجاً حضارياً يتشارك فيه كل البشر فلا تختص بالسياق الغربي، وما السياق الأوروبي - الأميركي إلا أحد تطبيقاتها. لذا يلخص طه عبدالرحمن روح الحداثة في ثلاثة أركان: الرشد والنقد والشمول، ثم يسعى لتأسيس ما يسميه بالحداثة الإسلامية منطلقاً لنهضة إسلامية شاملة. في السياق ذاته يمكن رؤية أدبيات الإسلام السياسي، فهي قديمة لو تعاطينا معها كردّ فعل على سقوط الخلافة العثمانية، وأقدم لو أعدناها إلى بذورها في خطابات النهضة العربية، وكتابات الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، ولكنها متغيرة جداً ومتجددة لو قرأنا تفاصيلها الدقيقة. فلا نكاد نجد الشبه بين تأسيس أبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وحسن البنا لحركات الإسلام السياسي، مع مخرجات حسن الترابي أو راشد الغنوشي مثالاً. حتى إننا نكاد لا نجد صلة بين تلك الأدبيات العتيقة وبين التأسيس السياسي لهذه الأحزاب الإسلامية السياسية قبل «الربيع العربي» وبعده، ودخولها العمل السياسي المدني وتحالفها مع قوى غير إسلامية...، كما حدث في تونس. القومية إحدى هذه الأفكار التي ينطبق عليها ما ينطبق على أي آيديولوجيا فكرية. إذا كان بعضهم يعيد نشأة الدول القومية في أوروبا إلى عصر معاهدة وسْتفاليا عام 1648، فهي قديمة جداً، وإذا كانت التنظيرات القومية ظهرت بعد تلك الحقبة بعقود، فهي - على رغم قدمها - منتج من منتجات الحداثة، فالحداثة أقدم. والأطروحات الليبرالية مجايلة لها. وهذا لا معنى له كما أسلفنا، فالسؤال المطروح دائماً هو: هل تتجدد هذه الأفكار وتجيب عن تساؤلات معاصرة أم تجمد على لحظاتها الأولى إذ فقدت فاعليتها؟ صدر حديثاً كتابٌ بعنوان: «في معنى العروبة: مفاهيم وتحديات» من تقديم المفكر اللبناني جورج قرم، ويضم 13 ورقة لباحثين وكتاب سعوديين شباب، حول قضايا تتعلق بالعروبة والشأن العربي. يمكن التنبه إلى أمرين رئيسين بخصوص هذا الطرح الجديد. الأول: إذا كان الطرح القومي العربي في أوائل ومنتصف القرن العشرين تجاذبه - وأقولها بنوع من التبسيط - تياران رئيسان، الأول: معني بترسيخ العروبة بوصفها هُوية، كطرح ساطع الحصري، والثاني: مهجوس بتأسيس دولة شمولية، كأطروحات ميشيل عفلق، فنجد أنه تغير بالكامل، ليصبح طرحاً ديموقراطياً يؤسس لدول قائمة على العدل الاجتماعي، ويحترم التعددية السياسية كأمر لا رجعة فيه. ولن تجد من القوميين الشباب من ينتظر «مستبداً مستنيراً» على غرار عصر الأنوار الأوروبي لينتشل العالم العربي من حال الضعف التي يتخبط فيها، أو يتطلع لزعيم ديكتاتوري أوحد منقذ. بل على العكس أصبحت الديموقراطية أولوية مع السيادة الوطنية لبناء نظام سياسي/اجتماعي عادل. الأمر الآخر، نجد أن أوراق الكتاب تستجيب في شكل مباشر إلى متطلبات اللحظة العربية الراهنة، لحظة الثورات العربية، حيث تنهار دول وتنشأ أخرى جديدة. فالأوراق تتطرق إلى الحدود والسيادة والاستقلال، ونحن نرى دولاً عربية تراوح بين تحرر من احتلال مباشر (أميركي)، لكنها تقع تحت نطاق هيمنة «إيرانية» كالعراق وأخرى تحولت إلى ساحة تصفية حسابات دولية وإقليمية كسورية. كما تتطرق الأوراق إلى مسائل الطائفية، وهي معضلة تمزق دولاً عربية عدة، وتطعن في خاصرة الوحدة الوطنية لدول أخرى. يبحث الكتاب كذلك مسألة الأقليات، فنجد الحديث يتكرر عن المسألة الكردية شرقاً، أو الأمازيغية غرباً، كقضايا داخل نطاق دول عربية، وبحاجة إلى نقاشها في السياق العربي، ولا ننسى هنا الإشارة إلى انقسام السودان إلى دولتين لأسباب مرتبطة بالتنوع العرقي للشعب. تبحث الأوراق كذلك قضايا شائكة تتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان والنسوية والتنمية والتبادل الثقافي بين الأمم والقضية الفلسطينية، من زوايا وخلفيات مغايرة. كل فكرة أو آيديولوجيا تحمل في داخلها إمكانات متعددة. فالدين يمكن أن يستخدم للهيمنة وإخضاع الشعوب، ويمكن أن يكون من عوامل تحررها (الحركات الوطنية في المغرب العربي/لاهوت التحرر في أميركا الجنوبية كأمثلة). الأفكار الليبرالية يمكن أن تجعل من صاحبها مناضلاً سياسياً أو شخصاً يطلب الحرية في المجال الخاص ويتجاهلها في المجال العام. الحرية والديموقراطية يمكن أن تكونا حجة لاحتلال الشعوب كما في النموذج الأميركي، أو في نموذج الاستعمار الغربي الذي قدّم عبر «واجب الرجل الأبيض المتحضر» تجاه الشعوب المتخلفة لينتهي إلى ممارسة البربرية باسم الحضارة. هذه التفاصيل تجعل التأني في الحكم على الأفكار وفرزها ودرسها من دون تصورات مسبقة أمراً مهماً، لصيغة تواصل مثمر، عوضاً عن الدخول في قطيعة تعزز الجهل بدل المعرفة. * كاتب سعودي. bnalrashed@gmail.com BALRashed@