النسخة: الورقية - سعودي يبدو أن الأزمة الأوكرانية تتجه نحو التهدئة بعد التصعيد الذي حصل من جميع الأطراف المتورطة في هذه الأزمة، فقد بدأت المبادرات السياسية من أطراف عدة توحي بأن الحل في التهدئة وتجنب مزيد من التصعيد السياسي والعسكري، وكان أولها المؤتمر الصحافي الذي عقده الرئيس بوتين، وأرسل العديد من الرسائل التي من الممكن أن تكون البداية في التهدئة، منها: أن الخيار العسكري في شرق أوكرانيا مؤجل حتى الآن، وكذلك اجتماعات باريس والاتصالات الألمانية الروسية، وكلها تشير إلى أن الجميع يسعى إلى إيجاد حل مقبول لجميع الأطراف في الأزمة، لكن قبل الوصول إلى الاستنتاج النهائي في التهدئة لا بد من استعراض أطراف الأزمة الأوكرانية وتحليل المواقف والدوافع لهذه الأطراف. بالنسبة إلى روسيا، فمنذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى الرئاسة عام 2000، وهو متعلق بماضي الاتحاد السوفياتي، ويملك طموحات لعودة روسيا كقوة تحل محل الاتحاد السوفياتي في المسرح الدولي، وتقارع الغرب، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية التي تفردت في الهيمنة على العالم، إذ عبّر عن هذه الطموحات والمواقف في مناسبات عدة، أشهرها مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007، وكأول مشاركة لرئيس روسي في هذا المؤتمر شن هجوماً لاذعاً على أميركا وسياساتها الرامية إلى تكريس هيمنتها على العالم، وتجاهلها روسيا والقوى الناشئة الأخرى، ولذلك يبدو أن طموحات بوتين - لإعادة روسيا إلى المسرح الدولي - لا تزال قائمة ومستمرة، وكأنه كان مستعداً للسيناريو الأوكراني ويتوقعه، فمنذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، وهو على اتصال بهذه الأزمة، من خلال اتصالاته مع الرئيس يانوكوفيتش، وتشجيعه له على رفض العرض الأوروبي، من خلال حزمة المساعدات التي عرضها عليه (15 بليون دولار)، في مقابل تقاربه مع روسيا، وكذلك حاول التأثير في أي اتفاق بينه وبين المعارضة، لكن بعد الاتفاق الذي وقع بين الرئيس يانوكوفيتش والمعارضة، قامت المعارضة بإزاحته عن السلطة وتولى رئيس البرلمان تسيير البلاد، وصوّت على تعيين رئيس للجمهورية ورئيس للوزراء، فدخلت روسيا جزيرة القرم أولاً، لحماية قواعدها، وأفصحت عن عدم اعترافها بالحكومة الجديدة، وشجّعت الأقليات على التمرد على كييف وسلطتها، فضمنت لها وجوداً عسكرياً في جزيرة القرم، ومن ثم بدأت التفاوض من منطلق القوة في هذه الجزيرة، والتهديد باجتياح الشرق الأوكراني ذي الغالبية الروسية والمعقل الرئيس لحزب الأقاليم الموالي لروسيا، وهو ما زاد الضغط على الحكومة الجديدة، وعلى داعميها من الدول الغربية. أما الولايات المتحدة الأميركية فيبدو أنها لم تكن تتوقع سرعة رد الفعل الروسي، فبدأت تصريحات المسؤولين الأميركيين تجاه روسيا، من التهديد بالمقاطعة الاقتصادية، وعدم حضور قمة الثماني في سوتشي، علماً أن المواجهة العسكرية لا تزال، وستبقى خارج الحسابات، لتأثيرها القوى جداً في الاقتصاد والاستقرار العالميين، ولاسيما في أوروبا، ولذلك ارتفع التهديد بالمقاطعة الاقتصادية لروسيا، من الغرب، علماً أن حجم التبادل التجاري بين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا لا يتعدى 4 في المئة، بينما يصل إلى 40 في المئة مع ألمانيا، ولذلك نجد أن التأثير الاقتصادي الألماني والأوروبي أقوى من الأميركي، لكن هل يستطيع الاتحاد الأوروبي التخلي عن الغاز الروسي، ودوره في الاقتصاد المنهك أصلاً بأزمة اليورو، وهو ما يجعل هناك تشكيكاً من العديد من المراقبين حول تطابق الموقف الأميركي - الأوروبي حول الأزمة الأوكرانية، ولاسيما ألمانيا التي ستكون المتضرر الأكبر، في حال حصول مقاطعة اقتصادية أو تصعيد سياسي وعسكري، ولذلك يعتقد محللون بأن ألمانيا ستقاوم أي تصعيد اقتصادي وسياسي قوي تجاه روسيا، بينما أميركا وفرنسا وبريطانيا تدفع باتجاه التصعيد، ما عدا العسكري حتى الآن. يبدو أن أوكرانيا في وضع لا تُحسد عليه، فالاقتصاد في أسوء حالاته، والبلد خزائنه خالية، وينتظر الإنقاذ من المالين الأوروبي والأميركي، إضافة إلى أن الاستقرار السياسي مفقود، بسبب التدخلات الخارجية، ووجود عرقيات مختلفة ومتعددة بين سكانها، ولذلك بدأت الأعلام ترتفع في الأقاليم، بحسب الانتماء، سواء لأوكرانيا أم لروسيا، وطلبت الحكومة الجديدة مساعدة حلف الناتو لحمايتها من التهديدات الروسية. والنزعات الانفصالية، وحلف الناتو لا يستطيع أن يتدخل عسكرياً الآن، لاعتبارات كثيرة، أهمها تهديد السلم العالمي، ولذلك أوكرانيا أصبحت مسرحاً للتدخل الدولي، أياً كان هدفه، ودخلت في لعبة المساومات والمفاوضات، وهو ما يؤكد أن أي اتفاق بين القوى الدولية المتصارعة لن يكون في مصلحة الشعب الأوكراني، ومن الممكن أن يؤدي إلى تمزيق أو أضعاف أوكرانيا. من خلال متابعة الأزمة الأوكرانية يترقب العالم سبل حلول هذه الأزمة، فهناك سيناريوهات محتملة لحل الأزمة، فالنموذج الفنلندي كدولة محايدة يمكن أن يكون أحد هذه السيناريوهات، وهو الأقرب إلى التحقيق، أو النموذج اليوغسلافي فتغرق أوكرانيا في الحرب والتقسيم، وتبدأ عمليات تقرير المصير، وسيؤدي إلى تقسيم أوكرانيا حتماً، لأن الأقلية الروسية والأقليات الأخرى ستختار إما الاستقلال أو الانضمام إلى روسيا، أو الفيديرالية الفضفاضة التي تعطي للأقاليم حق التوقيع والاتفاق مع الدول الأخرى، أو الكونفديرالية، وجميعها في النهاية لن تصب في مصلحة أوكرانيا كدولة وكشعب، وتنعكس آثار عدم الاستقرار على أوروبا وروسيا، بل على العالم بأسره. إن التراجع بالنسبة إلى روسيا صعب جداً، فالقضية الأوكرانية هي قضية لها بُعد قومي وشعبي وجيوسياسي، في روسيا، وحماية الأقليات الروسية هي ورقة سياسية بالنسبة إلى الرئيس الروسي، ولمجلس الدوما والعسكريين، ومن الممكن أن يكون التعامل مع الأزمة الأوكرانية رسالة للدول الأخرى في الفضاء السوفياتي بأن روسيا لن تتهاون في حماية الأقليات الروسية، والجميع يتذكر ما حصل في جورجيا عام 2008. أما الغرب فالسكوت والاكتفاء بالتنديد والعقوبات لن يثني روسيا عن طموحاتها، ولذلك لا بد من إظهار موقف قوي وحازم، لكن الصراع الأوروبي الداخلي بين ألمانيا من جهة وبريطانيا وفرنسا من جهة أخرى له تأثير في توحيد الموقف، إضافة إلى التباين الأوروبي - الأميركي، تجاه الأزمة وسبل معالجتها، إذ لا يزال الجميع يتذكر كلمات مساعدة وزير الخارجية الأميركي المسربة عن دول الاتحاد الأوروبي خلال وجودها في كييف. * أكاديمي سعودي. Alanazi15@hotmail.com