بالطبع سيكون من المبكر الحكم على ما سيقدم على فعله الرئيس الأمريكي الجديد في ملف الاقتصاد، وإن كانت حملته الانتخابية قد استهدفت "التجارة الحرة" وهي العمود الأساسي للاقتصاد المعولم في العقود الماضية باعتبارها سببا رئيسيا وراء ارتفاع معدلات البطالة واختفاء الصناعات من العديد من الولايات الأمريكية التي لم تستطع أن تطور لنفسها مزايا تنافسية في قطاعات خدمية مرتفعة المهارة والتكنولوجيا، وبالتالي خسرت قدرا كبيرا من الوظائف لصالح نقل المصانع إلى الصين والمكسيك وغيرها من بلدان العالم النامي التي انفتحت على انتقالات رؤوس الأموال الأمريكية منذ انتصار النيوليبرالية في مطلع التسعينيات باعتبارها الخيار الوحيد للنمو والتنمية في العالم. ومن المثير للانتباه حقا أن البلدين اللذين كانا الأساس في الدفع باتجاه تحرير التجارة في السلع والخدمات وتحرير انتقالات رؤوس الأموال بين الدول ـ وهما الولايات المتحدة وبريطانيا منذ صعود اليمين النيوليبرالي في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات بهما ـ هما اللتان تشهدان اليوم أكبر حراك انتخابي ملموس ضد أسس التجارة الحرة، ففي حالة بريطانيا كان التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي آتيا من القطاعات التي خسرت من العولمة أكثر مما كسبت سواء من جراء هروب الصناعات أو تدفق المهاجرين الأوروبيين وغير الأوروبيين لينافسوهم في الأجور والوظائف، ثم كان صعود ترامب وحصوله على ولايات كانت تقليديا تصوت لصالح الديمقراطيين، ولكنها خسرت أكثر مما ربحت كذلك من تحرير التجارة وتحرير حركة رأس المال، وباتت تنظر للعولمة باعتبارها قد وضعت المكاسب كلها في صف الشركات الأمريكية الكبرى العابرة للقارات والمحيطات على حساب الطبقات العمالية، وإن يؤخذ بعين الاعتبار بالطبع أن حامل لواء العداء للعولمة اليوم هو اليمين الشعبوي الذي يقف لا فحسب ضد تدفق رأس المال والتجارة بل ضد التعددية الثقافية والهجرة وحق اللجوء، وهي المبادئ التي طالما كانت جزءا لا يتجزأ من الأيديولوجية النيوليبرالية بشقيها الاقتصادي والسياسي، والتي يبدو أنها قد دخلت في أزمة طاحنة لا فكاك منها منذ الانهيار المالي في ديسمبر ٢٠٠٨ وحتى اليوم. يبقى بالطبع السؤال معلقا فيما إذا كان دونالد ترامب سيتمكن من التحلل من التزامات الولايات المتحدة إزاء التجارة العالمية، وأن يعيد الصناعة إلى الأراضي الأمريكية، وهو أمر يكاد يجمع اقتصاديون على اعتباره غير ممكن في ضوء فارق مستويات المعيشة وبالتالي مستويات الأجور بين العمال الأمريكيين ومنافسيهم في المكسيك أو في شرق آسيا، ولكن تظل هناك مساحة للتحرك للضغط على الصين لتعديل قواعد التجارة مع الولايات المتحدة كما لوح ترامب مرات عدة إبان حملته الانتخابية، وهو ما قد يعني تصعيدا ماليا في ضوء كون الصين أكبر حائز لأذون وسندات الخزانة الأمريكية، وتجاريا كون التجارة البينية بين البلدين هي الأكبر عالميا، تضاف إلى التصعيد الجاري منذ عهد أوباما على المستويين العسكري والسياسي في بحر الصين، وهو أمر قد يؤدي إلى اختلال في الاقتصاد العالمي إن لم يؤد إلى حلقة جديدة من حلقات الانكماش والفوضى. فكيف يمكن أن يؤثر هذا على بلدان العالم النامي الصغيرة ـ اقتصاديا ـ مثل مصر؟ تعد مصر ضمن بلدان شمال إفريقيا والشرق الأوسط غير الغنية نفطيا، والتي لم توفق كثيرا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من خلال الاندماج في الاقتصاد العالمي الآخذ في التحرر المتزايد منذ الثمانينيات والتسعينيات، ولم تتمكن مصر مثلها في هذا كالعديد من البلدان النامية من تغيير هيكل صادراتها السلعية والخدمية إلى قطاعات ذات قيمة مضافة أعلى بما يمكنها من تحقيق عائد تنموي من التحرير الاقتصادي أو من تحرر حركة رأس المال بل ظلت تعتمد على صادرات المواد الخام من البترول والغاز الطبيعي أو على تصدير العمالة نصف الماهرة أو غير الماهرة لبلدان الخليج وليبيا مقابل إرسال تحويلات دولارية، وسواء كان ذلك الفشل في تحقيق التنمية من خلال الاندماج في الاقتصاد العالمي نابعا من ظروف تخص مصر كطبيعة مؤسسات الدولة المنظمة للاقتصاد، والتي لم تخلق قط الفرص المناسبة لنمو وتطور القطاع الخاص القادر على المنافسة وخلق فرص العمل اللهم إلا من خلال شبكات محسوبية أثبتت مع الوقت أنها عبء سياسي حتى وإن حققت بعض النجاحات الاقتصادية هنا وهناك، أو كان الفشل نتيجة عوامل عالمية كتحول الصين لمصنع العالم بخزان بشري من العمالة الماهرة الرخيصة لم يبد أنه ينفد على نحو جعل التصنيع مهمة مستحيلة في مواجهة بلدان لا فحسب مثل مصر بل في أمريكا اللاتينية وأفريقيا كذلك. بغض النظر عن السبب تحديدا، فإن مصر لم تكن ضمن الرابحين من الاقتصاد المعولم القائم على التجارة الحرة، ورغم أن حدوث اختلالات كبيرة في المستقبل جراء تحلل الولايات المتحدة من التزاماتها الدولية أو جراء تداعي الاتحاد الأوروبي المحتمل سيكون له أثر سلبي مباشر على الاقتصاد المصري الذي يعاني بالفعل من الركود التضخمي إلا أن مثل ذلك الاختلال قد يفيد في الوقت نفسه من الزاوية الإستراتيجية لأنه قد يتيح مساحة حركة للخاسرين من العولمة لإعادة تموضعهم في الاقتصاد العالمي، وإعادة صياغة التزاماتهم، وربما حتى فتح ذلك الباب أمام تكون تكتلات اقتصادية جديدة تتبع دبلوماسية تجارية مشتركة هدفها إيجاد مساحة أكبر لتحقيق التنمية على المستوى الوطني أو الإقليمي في مواجهة التحرير الاقتصادي الذي يصب في صالح شرائح محدودة في بلدان الجنوب كما الشمال، وقد يؤدي مثل ذلك الاختلال المستقبلي إلى إعادة بحث دور الدولة الوطنية في تنظيم حركة رأس المال على نحو يقلل من حرية حركته لصالح عبء ضريبي عادل يمكن الدول من رفع حصيلتها والتخفيف من الاعتماد المفرط على الاستدانة وبالتالي توفير المزيد من الموارد للاستثمارات العامة.