في البداية لم يكن المنظر غريبًا، على الأقل بالنسبة لمن سبق له زيارة الأضرحة: قبر ضخم مغطى بثوب أخضر يحتل وسط غرفة عالية السقف، رجل في جانب من الضريح يجوّد آيات من القرآن، سيدة تدور على الضريح وهي ترّدد آهات تختزل ما يتضمنها فؤادها من أحزان، أخرى أعجبتها خصوصية المكان فغطت في نوم عميق.. لكن بعد هذا المشهد الهادئ نسبيًا، كان ضريح الولي أبو عبيد الله الشرقي مسرحًا لاحتفال آخر. في مدينة أبي الجعد، حوالي بـ176 جنوب شرق العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، وفي آخر أيام الموسم الديني والثقافي للزاوية الشرقاوية، الذي تزامن مع مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ المستضاف بمراكش، كانت المنطقة في لقاء خاص مع مؤتمر خاص يرقص فيه الإنسان حتى يخر ساقطًا وجسده يتموج كما لو صعقه تيار كهربائي. هي "التعركيبة" التي ينتظرها الكثير من أبناء قبائل السماعلة لأجل الوفاء لطقوس مثيرة للجدل. أغلقت تلك الحوانيت القليلة في الممّر المؤدي إلى الضريح أبوابها، ومنها من قرّر فقط لمّ بضاعته المتكوّنة من شموع وحناء وتذكارات، من ذلك الحيز الذي كانت تحتله في الممر. في الساحة المقابلة للمبنى، كان المئات من سكان وزوار أبي الجعد يستعدون لمشاهدة منظر فريد، تحت مراقبة أمنية مشددة خوفًا من انفلاتات كان الضريح مسرحًا لها قبل سنوات، وما هي إلّا لحظات من صبيحة ذلك الأحد حتى جاء الوفد المنتظر.. شباب تخلّص عدد منهم مما يستر نصفهم الأعلى، يصرخون ويغنون بكلام غير مفهوم، لا يبدون بكامل وعيهم، يحيط بهم بعض راكبي الجياد الذين رافقوا الموكب منذ خروجه من ساحة الموسم. آخرون يرافقونهم يضربون على الدفوف، تزداد حرارة صراخهم كلها اقتربوا من الضريح، كانت تسبقهم جماعة صغيرة تشّد إليها عجلا سمينًا كاد في أكثر من مرة ان يفلت من أياديهم وينطلق مسرعًا في الممر المؤدي إلى الضريح، في منظر يشبه مسابقات الكوريدا الإسبانية. وصل العجل إلى فناء الضريح، فخلق موجة من الصراخ بين من أخذوا مكانهم داخل الضريح منذ ساعات الصباح الأولى، غالبيتهم من النساء، منهن من ارتدين ألبسة خضراء بالكامل وهن يطلبن شفاعة الولي الراحل كي يحقق لهم بضع أماني..وها هي إلّا لحظات حتى وصل وفد الراقصين، بعينين متسعتين لا تدركان ما يجري كان، كان واحد منهم يحملق في وجوه المتفرجين، ويسأل أين هو الماء الساخن، آخر كان يضرب على صدره بقسوة كما لم أنه يعاقب نفسه على ذنب ما، بينما فهمت جماعة العجل الرسالة سريعًا، فأدخلته إلى إحدى أركان الزاوية، خوفًا عليه من أن يلقى حتفه اعتُصرت الأجساد في فناء الزاوية وسط زحام شديد، ثم دلفت إلى فناء أصغر قليلا يطل مباشرة على ضريح الولي. رؤوس تدور بسرعة فيما يُطلق عليه المغاربة "الجدبة".. نساء ورجال دخلوا في طقوس راقصة هستيرية تطلب بركة الولي.. رجال الأمن يراقبون المنظر بكثب من كل الأنحاء.. منع شديد للتصوير وكل من يُظهر هاتفه يصير عرضة للمساءلة. بدأ الشباب يتساقطون من شدة الرقص، يدخلون في إغماءات متكررة، فينقلهم أصحابهم إلى ركن من الزاوية حيث ينثرون عليهم بضع قطرات ماء لعلهم يعودون للإدراك بسرعة. خفت حركية الراقصين، بدأ الوعي يتسلل إلى من ظهر أنهم فقدوه. انتهت "التعركيبة" التي ينظر لها عدد من أبناء المنطقة كموروث إيجابي يعكس خصوصيتهم، وينظر لها البعض الآخر طقسًا متخلفا خصوصا عندما يرتبط بأفكار تناقض المرجعية الدينية. بعض الراقصين بقوا مستمرين في غيبوبتهم، أحدهم احتضن رجل أمن وبدأ يبكي بدموع غزيرة غسلت وجهه وعنقه كما لو أن ذنبًا عظيمًا يحتل أعماقه.. الدموع ذاتها كانت في مقلتي سيدة تصرخ بأن أولادها تركوها وحدها وأن لا معين لها غير شفعة هذا الولي. كل سنة تحتضن أبي الجعد موسمها الذي يستفيد من منحة ملكية، تمثل "التعركيبة" آخر فصوله، بعد أيام يعرض فيها التجار بضائعهم الموسمية وتنظم فيها معارض خاصة بالصناعة التقليدية ومحاضرات ومسابقات في تجويد القرآن، زيادة على عروض "التبوريدة" أو الفانتازيا، التي تحرص فيها قبائل السماعلة وشرقاوة على استعراض مهاراتهم في ركوب الخيل وقدرتهم على التنسيق في لحظة إطلاق البارود. يمثل هذا الموسم منفذَا اقتصاديًا للمدينة، يقول المعطي فلعوس، أحد مادحي الزواية الشرقاية، ينظم في بداية الموسم الفلاحي حيث يرى فيه سكان المنطقة فأل خير على ما ستنتجه أرضها من مزروعات. لكن واقع الحال يؤكد أن الموسم تحوّل إلى فرصة لإنقاذ المدينة، يجلب الزوار من كل مكان، وينادي على أبنائها من يحملون أصولها في دمائهم، يقول لنا المعطي، متابعًا: "أبي الجعد ترى النور مرة واحدة في السنة بفضل هذا الموسم". وفق ما يذكره أحمد الشرقاوي بوكاري، مؤرخ الزاوية، في كتابه "الزاوية الشرقاية.. دار علم ودين وصلاح"، فمؤسس هذا الفضاء هو أو بوعبيد الله الشرقي العمري الذي ينتسب إلى ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب، وقد وصل أجداده إلى المغرب، وتحديدًا منطقة تافيلالت، في القرن 12 ميلادي، ثم انتقلوا إلى بلاد ورديغة وتادلا، في أواخر القرن 14 م، وقد تلقى أبو عبيد الله تعليمه في زواية والده، وتتلمذ على يد شيخ اسمه سيدي عثمان أمسناو، وبعد وفاة والده، قام أبو عبيد الله بتجديد عهد الطريقة الجزولية الشاذلية، وهي إحدى طرق التصوف. "التعركيبة عادة قديمة دأبت عليها قبائل السماعلة. هؤلاء هم خدام الزواية الشرقاوية، وذلك العجل يمثل هديتهم السنوية التي يقدمونها للزاوية. ومن ثمن هذا العجل الذي نبيعه، نساهم في إصلاح الزاوية وتوفير القليل من ميزاينتها"، يخبرنا المعطي. سألناه عن طقوس سمعنا بها سابقًا تتمثل في ذبح العجل والتبرك بدمه وأحيانًا حتى أكل بعض أجزائه النيئة، فأجابنا أن القائمين على الزواية قرّروا القطع مع هذه الطقوس منذ مدة، لما لها من سمعة سلبية لا علاقة لها بهدف الزواية القائم على نشر التعاليم الصحيحة للدين. غير أن هناك من أبناء المدينة من ينظر إلى ما يجري داخل الزاوية بسلبية، منهم أيوب، إذ يقول إن طقوس "التعركيبة" تمس بسمعة أبي الجعد، واصفًا ما يجري من رقص بـ"مجرد هيجان نفسي"، إذ "يعمد بعض السكان، ممّن يعانون تراكمات نفسية، إلى التعبير عن مكبوتاتهم بهذه الطريقة التي يجدون فيها راحتهم، ويظنون أن هذه الطقوس تحمل بعدًا روحيًا، لكن الحقيقة أن ما يجري مجرد جهل مغلف بالدين، والنقطة الإيجابية الوحيدة في الموسم تكمن في إنعاشه لاقتصاد المدينة"، يتابع أيوب. تختزل طقوس "التعركيبة" إحدى الجوانب الغامضة للثقافة المغربية الشعبية، فعندما يختلط المقدس بالموروث الشعبي داخل وسط محافظ لم يتلّق تعليمًا متقدمًا ويعاني من تدني مستوى المعيشة، تبرز مثل هذه الظواهر التي يفسرها كل واحد بطريقته الخاصة بين مشجع لها ونافر منها.. ومهما تعدّدت الآراء حول "الجذبة" وما يرافق الأضرحة من سلوكيات الكثير منها يطاله الاستهجان، تبقى ثقافة الزواية حاضرة في المغرب، إذ يحتفظ لها التاريخ بالكثير من الأدوار الطلائعية في نشر العلم وتدبير الشأن المحلي والحفاظ على التماسك الاجتماعي.