إذا كانت لكل عصر علاماته الفارقة، فإن القرن العشرين هو عصر الاتصال والإعلام. ففيه تمّ ابتكار الراديو والتلفزيون، وفيه أيضاً تمّ انتشار السينما والهاتف والتلكس والفاكس والانترنت. وفيه تطوّرت تكنولوجيا الاتصالات، وصناعة الطباعة والنشر في شكل مذهل ليصبح الاتصال بالجماهير عبر الإعلام والإعلان والدعاية قوة هائلة تلعب دوراً أساسياً في الحياة السياسية والاجتماعية والدينية. شكّل الإعلام في التجربة الغربية امتداداً للبنية الاقتصادية والاجتماعية، مما أدّى الى بروز الشركات الكبرى، وولّد الحاجة الى إيجاد وسائل إعلان ودعاية بقصد تسويق السلع، وبيع الخدمات، الى جانب الوظائف الأخرى للإعلام كالأخبار والترفيه والتسلية، بينما ارتبط الإعلام في المنطقة العربية بالعامل السياسي، ترويجاً لسياسة الدولة، أو تعزيزاً لنفوذ مالكيه. يتناول كتاب نهوند القادري عيسى الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «الاستثمار في الإعلام وتحدّيات المسؤولية الاجتماعية» حركة الاستثمار في الإعلام العربي، وبخاصة اللبناني لمعرفة روّادها ونقاط تمركزها ومسؤولياتها تجاه مجتمعاتها. تعتبر مؤلفة الكتاب أن الاستثمار في الإعلام يميل لأن يكون تعبيراً عن مصالح شخصية، أكثر منه استثماراً مؤسّساتياً لديه واجبات تجاه المؤسسة وبالتالي نحو المجتمع، إذ غالباً ما يكون الأفراد المستثمرون في الإعلام امتداداً للعائلات أو الطغم، أو امتداداً لرجال المال والسلطة، كما هي الحال في لبنان، وهم يلجأون الى المواربة بتعيين رؤساء مجالس إدارة من أنسبائهم، أو أزلامهم يوضعون في الواجهة ليعطوا الانطباع بأن العمل الإعلامي الذي يمارسونه هو عمل مؤسساتي على وجه التحديد. في استطلاع للرأي لعدد كبير من رؤساء مجالس الإدارة أدرجته في كتابها نهوند القادري عيسى، تلاحظ أن كلام هؤلاء يتسم بالعموميات والكليشهات، كما يتسم بالامتناع عن ذكر أسماء المستثمرين، والتكتّم على عددهم وجنسياتهم. ويبدو الكذب مموّهاً الواقع عندما أشار هؤلاء الى أن وجهة المستثمرين في الدرجة الأولى كانت التجارة، وإذا بدوافع الاستثمار تبتعد من هذه الوجهة، فتأتي تنمية الرأسمال والربح في آخر قائمة الأولويات المذكورة من جانبهم، واضعين بالدرجة الأولى تدعيم المكانة السياسية للمستثمرين يليها تدعيم الثقافة الدينية، يليها خدمة بلد معيّن. وتلاحظ المؤلفة أن المساحة بين الواقع وإجابات رؤساء مجالس الإدارة كبيرة جداً، إذ تقرّ الغالبية بأنه تمّ تحديد معنى المسؤولية الاجتماعية بتعزيز الوحدة الوطنية، والحفاظ على العادات والتنوّع والانفتاح، وتستفيض في الكلام المصنّف في باب الكليشهات المعاكس بعضه للبعض الآخر، كالحديث عن تعزيز الثقافة الدينية، وتعزيز ثقافة المواطنة، الدعوة الى التحديث والحفاظ على الخصوصية، التسريع في دخول العولمة، والحفاظ على العادات والتقاليد. هذا الكلام، كما ترى الدكتورة القادري، على المسؤولية الاجتماعية للإعلام يتناقض مع ما هو رائج، ومع ما نشهده من أساليب عمل الإعلام في لبنان. لا تقوم عملية الاستثمار في الإعلام على المستثمرين فحسب، وإنما يدخل في صلب أركانها الصحافيون الذين يحقّقون عملية الاستثمار، ويجدون أنفسهم على الأرض في مواجهة وقائع وأحداث وأشخاص، بعضهم يعتبر أن مهنة الإعلام تقوم على نقل الخبر بكل موضوعية، وبعضهم يعتبر أن الإعلام يجب أن يقوم على التسلية والترفيه. تكشف المؤلفة من خلال استطلاعها آراء ما يقارب خمسين إعلامياً يعملون في مختلف الوسائل المرئية والمقروءة والمسموعة، أن ما صرّح به هؤلاء عن واقع عملهم محاط بألغاز، حبكها هؤلاء بهدف إقناع أنفسهم أوّلاً، ومن ثمّ إقناع الآخرين بمقولات ومفاهيم لم يعطوا أنفسهم فرصة اختبارها، من ذلك أن غالبية أفراد العينة المختارة لم يتلقّوا أي تأهيل مهني قبل المباشرة بالعمل، وهم يعملون في المراسلة والتحرير، وفي أكثر من وسيلة إعلامية. وتشير الكاتبة في هذا السياق الى حيرة هؤلاء في وصف أدوارهم، فتارة ينصّبون أنفسهم كمدافعين عن حقوق المواطنين، وناقدين وسلطة مضادة، وتارة أخرى وسطاء وصنّاع رأي، ومشاغبين. أما في ما يخصّ علاقتهم بالمستثمرين فهي غير موجودة، أما الفئة القليلة التي لديها فكرة عن هؤلاء، فقد حاولت إبعاد الشبهة العائلية والسياسية والمذهبية عن المستثمرين قدر الإمكان، وذلك بإضفاء الصفة المؤسساتية في الدرجة الأولى على المؤسسة الصحافية التي يعملون فيها. وتكشف الباحثة اللبنانية أن الخلفية المهنية للصحافيين تتكوّن من خلال الخبرة، والعلاقات الخاصة، والمسؤولين في العمل. وقد تصدّرت الأوساط السياسية مصادرهم، بينما تصدّر الأهل قائمة مرجعيّاتهم الأخلاقية، يلي ذلك الصحافيون الكبار، فيما غابت عن أذهانهم النقابة، والتأمينات الاجتماعية، وبدوا غير واعين للعلاقة التي يحبكها المستثمرون مع رجالات الإعلام، ومع المعلنين والسياسيين والجمهور. يشكل الجمهور الركن الثالث في العملية الإعلامية، فهو شريك فعلي فيها، ومكوّن أساسي من مكوّنات العملية الإعلامية، وقد درسته المؤلّفة من خلال عيّنة من الأشخاص، متعدّدة في انتمائها الجغرافي والعمري والذهني، فتبين لها أن المشتركين في العيّنة موضوع البحث، يفضّلون الوسائل المرئية على المسموعة، ويحبّذون بالدرجة الأولى البرامج الإخبارية والسياسية، تليها المسلسلات والأفلام، والبرامج الاجتماعية، والترفيهية، تليها بالتساوي البرامج الفكاهية والموضة والجمال، والبرامج العلمية، وأخيراً البرامج الحوارية والسيارات والمعلومات العامة، والأخبار الجوية. وفي بحثها عن المسؤولية الاجتماعية لدى وسائل الإعلام اللبنانية، تبين لها أن نسبة تفوق النصف من المشاركين قالت عن هذه الوسائل إنها لا تتحلّى بالمسؤولية الاجتماعية، وكانت لهم مبرّراتهم، وقد أوردوها على التوالي تبعاً لنسبة تكرارها: التبعية السياسية والحزبية، وعدم إيجاد حلول للمواضيع المطروحة، والتحيّز وعدم الموضوعية في الطرح، والسعي الى خدمة مصالحها المادية، وغياب برامج التوعية السياسية والثقافية وتضمينها برامج فكاهية، والبرامج لا تخدم قيم وتقاليد المجتمع اللبناني، وأخيراً بالتساوي لكل من: اهتمامها بالمواضيع الفضائحية، والتعامل مع المسؤولية الاجتماعية بسطحية، وطرح مواضيع سخيفة، وعرض المشاكل الاجتماعية بهدف جذب الجمهور، والظروف السياسية والأمنية، وغياب المحاسبة والرقابة على وسائل الإعلام. وكان لافتاً كما ترى المؤلفة أن المشاركين في الاستطلاع كانوا أكثر جرأة في تشخيص عوارض الجمهور المرضية، إذ قالوا إن ضعف الثقافة لدى هذا الأخير، هو أحد العوامل التي حالت دون قيام وسائل الإعلام بدورها على صعيد المسؤولية الاجتماعية، على النقيض من رؤساء مجلس الإدارة ، ومن الإعلاميين الذين بدوا منسحبين أمام الجمهور، وفي خدمته كيفما كان. غير أن هؤلاء المشاركين، في معرض سؤالهم عن أسباب عدم قيام وسائل الإعلام بدورها على صعيد المسؤولية الاجتماعية ذكروا: هاجس الربح المادي، والتوجّهات السياسية، والمنافسة ، وضعف الثقافة لدى الجمهور، أي أنهم خلطوا الأسباب بالنتائج، ذاكرين عوامل من المحتمل أن تكون نتيجة وسبباً في الآن نفسه. كتاب نهوند القادري عيسى عن الاستثمار في مجال الإعلام، يسقط القناع عن بعض الحقائق المموّهة، والغائبة عن وعي الناس حول الإعلام، نظراً الى نهجه الموضوعي والتطبيقي في معالجة العملية الإعلامية. إنه كتاب يتمتّع بأعلى صفات الأكاديمية من حيث منهج البحث والتحليل والتأويل، وهي قليلة اليوم في الأبحاث العلمية، لذلك يمكن اعتباره من دون تحفّظ مرجعاً يعود اليه المهتمّون بقضايا الإعلام في لبنان والعالم العربي. الإعلام العربيالقطاع التجاري