كيف تصنع فيلماً مناهضاً للحرب من دون أن تروّج للقتل، وكيف تحقق فيلماً عن المافيا من دون أن تدغدغ سطوح اللذة في العنف والجريمة، وكيف تقدم فيلماً يدين الرأسمالية وفساد عالم المال والبورصة من دون أن تداعب فكرة الجشع الإنساني؟ إلى الآن لا يبدو أن السينما استطاعت حسم هذه الإشكالية، فها هي تتجدد مع كل إنتاج هوليوودي (ضخم الموازنة) يدّعي موقفاً أخلاقياً اتجاه قضية لا أخلاقية، وإذا به ينتهي مسوّقاً لها وممجّداً أبطالها. وإلا كيف نفسّر خبر احتفاء شركات المال والبورصة والبنوك بفيلم «ذئب وول ستريت» لمارتن سكورسيزي؟ فالفيلم الذي أراده المعلم الكبير صفعة على وجه الرأسمالية والجشع والإثراء غير القانوني، ودروب الانهيار في عالم الفساد والمتع والإباحية، رأى فيه أسياد البورصة تمجيداً سينمائياً لهم، فقاموا بتنظيم حفلات حضور جماعي للعاملين في القطاع من خلال شراء جميع تذاكر العرض لما اعتبروه «الفيلم الحدث» الذي أتى أخيراً ليحتفي برحلة الطموح ومغامرة الارتقاء. وأمام هذه المفارقة بين رسالة الفيلم المفترضة والتلقي لها تبرز الحاجة للتوقف عند الشروط التي تتحكم في صناعة البطل السينمائي الهوليوودي الذي لا يُسمح له بالخروج عن أسس الصناعة، مهما بدا الالتباس فادحاً بين الرسالة والخطاب داخل المعادلة الإنتاجية الهوليودية. مآثر شخصية إنه البطل صانع المأثرة للشخصية الأسطورة، المقبلة من القاع لترتقي درجات الطموح وتتربع على عرش الحلم الأميركي الجمعي، حيث تنتفي - بعد انتهاء العرض - أهمية أدوات رحلة الوصول وتفاصيلها. لنكون مجدداً أمام الإشكالية في إمكانية تحقيق فيلم يدين قضية ما داخل معادلة السينما الجماهيرية، حيث تقع على بطلها الوسيم الجذاب مهمة حمل الفيلم بالاتجاه الذي يؤمّن تحقيق أكبر نسبة من الأرباح في شباك التذاكر. ونتساءل هل كان فيلم سكورسيزي الأخير سيلقى هذا الترحاب لو أنه دان حقاً الكوارث الأخلاقية والقانونية التي سببتها أعمال رجل البورصة المحتال جوردان بيلفورت (ليوناردو ديكابريو)؟ وأين هي تلك الكوارث في الفيلم أصلاً؟ وأين هم ضحاياها؟ وكيف يمكن تمرير رسالة تدين الجشع والفساد مع تغييب كامل للمتضررين منهما؟ بالتالي هل لعبة البورصة وفساد قطاعها الذي أوصل الولايات المتحدة، والعالم، إلى كارثة اقتصادية قبل أعوام مضت، مخلّفة وراءها تراجيديات واقعية لعائلات غرقت بين ليلة وضحاها تحت خط الفقر، قابلة لأن تكون موضوع فيلم سينمائي ممتع ومسلٍّ لا ضحايا فيه؟ فيلم «ذئب وول ستريت» - الذي كان لأيام أحد أبرز المتربعين على ترشيحات جوائز الأوسكار الأساسية هذا العام قبل أن يخرج وأصحابه من المعمعة خالي الوفاض - قرّر تغييب ضحايا شركة جوردان بيلفورت عن المشهد السينمائي، على رغم أن سيناريو الفيلم أخذ مادته من مذكرات الرجل الشخصية، والتي لا نعلم ما إذا كانت هي الأخرى قد أغفلت الطرف الآخر للحكاية. لكننا نعلم أن قضايا كثيرة ما زالت مرفوعة أمام القضاء تطالب باستعادة بعض من خسارة الآلاف مدخرات العمر التي ذهبت في ضربات احتيال بيلفورت الذي شيّد إمبراطوريته المالية على جثث لا تحب هوليوود أن تفسد، بحضورها، شهية الزبائن على مائدتها. قد تجد تلك الضحايا حاضرة تنتظرك بلباسها الجنائزي ونحيبها في فيلم وثائقي يتناول الموضوع عينه ويعالج القضية ذاتها، لكنك لن تجدها في الروائي، حيث لا مكان لمواجهة تضعك وجهاً لوجه أمام الحقيقة القبيحة كاملة، فتفسد عليك متعة المشاهدة وتخرج بطل الفيلم من إطار صانع الحلم. وهو ما حدا بسكورسيزي لاختيار الإطار الكوميدي الأقرب للهزلي كمخرج لتمرير جرعة الفساد والإباحية العالية التي أرادها تهكمية مغرقة بسخريتها، داخل بناء سينمائي أتى أشبه برقصة مجنونة تنعى جميع القيم النبيلة دفعة واحدة، محلقة برشاقة داخل جماليات سردية مبهرة تجعل من انتصار أمثولة الشر أمراً مستحقاً. وهل تُعتبر عودة محقق استخبارات الأمن القومي إلى بيته في مشهد النهاية تماماً كما تنبأ «الذئب» له، إلا تحقيقاً لنبوءته في المصير الكئيب للبطل المضاد؟ فها هو رجل العدالة الشجاع الذي أثار واحدة من أكبر قضايا الفساد الاقتصادي والتهرب الضريبي في أميركا يعود في المترو وحيداً بائساً مع أبناء طبقته الكادحة مسجلاً بصمت انتصاراً للحق والأخلاق، لكن من دون أن يُسمح له بتسجيله على الشاشة. ومن سيغامر أصلاً بالتشويش على انتصار الأمثولة حتى وإن تحققت هزيمتها أمام قانون العدالة؟ فالبطل عليه أن يبقى منتصراً حتى في هزيمته، وعلينا أن نراه ينتهي كمحاضر في فنون الإقناع ومهارات البيع، تماماً كما انتهى، قبل سنوات مضت، بطل آخر زميل له في فيلم ستيفن سبيلبيرغ (اقبض علي إن استطعت) الذي لبس جلدته أيضاً الممثل الفذ (ليوناردو ديكابريو)، وحيث انتهى كذلك خبيراً ومستشاراً لدى الأمن القومي في قضايا التزوير والاحتيال. وهذا ما يستحضر من الذاكرة مقولة المخرج الفرنسي فرنسوا تروفو: «ليس هناك من فيلم مناهض للحرب، لأن الأفلام تجعل الحرب تبدو دوماً ممتعة بصرف النظر عن رسالتها». بين الرسالة والمعالجة ذلك أن حال البطل في أفلام الحرب أيضاً تعزز المفارقة بين الرسالة وآلية المعالجة، حيث لا مكان لضحايا الطرف الآخر، اللهم إلا إذا كان فيلماً يعلن انشقاقه الصريح عن شروط الإنتاج الموجّه للجمهور العريض، في مغامرة سينمائية تصفي ذمتها مع الحقيقة التاريخية والأخلاقية والسينمائية الكاملة. وعلى رغم أن البحث في مفهوم «الأفلام المناهضة للحرب» طويل وشائك، والمساحة هنا لا تفيه حقه، إلا أنه يبقى دوماً مفيداً كمثل للاستدلال. فالأفلام الأميركية التي قدمت إدانتها للحرب مثل «صائد الغزلان»، و «السترة المعدنية الواقية»، و «الكتيبة»، و «القيامة الآن» و «كاتش 22»، وغيرها الكثير من قبل ومن بعد، مثل «جوني حصل على سلاحه»، و «الأسود الشابة»، و «رايات آبائنا» و «رسائل من إيواجيما» و«أسود للحملان»... خلصت إلى أنه «كانت هناك أخطاء في ما حصل» و «قد كنا لا شك مخطئين»، لكنها لم تصل لتقول إن الحرب نفسها خاطئة. وحتى تلك الأفلام التي ذهبت إلى طرح عبثية الموت في ساحات القتال وهواجسها التأملية الإنسانية والوجودية مثل «الخيط الأحمر الرفيع»، و «إنقاذ الجندي راين» وغيرهما، كانت أفلاماً يميل الخطاب فيها إلى التشدييد على خلو الموت في الحرب من أي قيمة نبيلة، وعلى فداحة الهوة بين مثالية الأفكار النظرية وتطبيقها الواقعي الغارق بالدماء. وهو ما أبرزته أيضاً أفلام الحرب الأخرى التي أتت بعد ضربات الحادي عشر من أيلول مثل «خزان الألم»، وغيرها الكثير، والتي وإن اتخذت موقفاً نقدياً صارماً من الحرب المزعومة على الإرهاب، لتدين المؤسسة العسكرية، وغياب الأرضية الأخلاقية للسلطة الأميركية الحاكمة، إلا أن معظمها انتهى إلى القول «إننا أناس جيدون وجدوا أنفسهم داخل ظرف سيئ ولأسباب سيئة»، متجنبة القول بوضوح إن الحرب بحد ذاتها أمر سيئ وغير أخلاقي... ولكن مهلاً، كيف يمكن قول ذلك؟ والجواب: ابحث عن الضحية... فالسينما تقول ذلك وأكثر منه بكثير حين تجعلك ترى الضحية من الجانب الآخر للحكاية، وحين تضعها داخل المتن الســــينمائـــي كطرف أساس في الخطاب الدرامي، وليــس كتفصيل جانبي لضرورات بناء الصراع. غير أن هوليوود لا تحب المغامرة بجعلك تخرج من فيلم وشعور بالحزن والخزي والعار يلبسك. إذا كان سكورسيزي مالَ في تحفه السينمائية السابقة التي تركّزت مواضيعها داخل المافيا والجريمة، حول فكرة «الذنب الذاتي» وفق الرؤية الكاثوليكية التي لم يتخلَّ عنها يوماً، والتي تجلّت منذ أفلامه القصيرة الأولى كإرث عتيق في التربية والنشأة، فإنه قد وجد في المعادلة الإنتاجية الهوليوودية لمفهوم الخير والشر الحاضن المثالي لرؤيته تلك. فهل هناك أنسب من تحميل الذات الفردية الذنب عوضاً من الذهاب إلى البحث في الشر والفساد العام؟ وهل من مسوغ لأمثولة الفساد والجشع والانهيار الأخلاقي أفضل من جعل الأمر قضية فردية تجد حلولها في النهاية في وقفة توبة ذاتية عوضاً من توسيع الدوائر للدخول في إدانات قد تبدأ بأفراد وقد لا تنتهي عند نظام بأكمله ومنظومة برمتها؟ ذلك أن هوليوود ترتاح للمعالجات الأخلاقية الفردية، تاركة أمر «الشر» العام ومنظومات الفساد الكبرى وطرق مواجهتها للسينما المستقلة لتعالجها بمعرفتها، فلا أحد في نهاية الأمر يرغب بالهزيمة للبطل. عندما قدم أوليفر ستون فيلمه الشهير «وول ستريت» قبل ثلاثة وعشرين عاماً، فاضحاً الجشع المالي وفساد أروقته، أتى توقيت عرضه مثالياً، إذ تزامن مع انهيار بورصة وول ستريت عام 1987. وما إن نطق بطله غوردن غيكو (مايكل دوغلاس) على الشاشة مقولته الخالدة «الجشع... أمر جيد»، حتى تحولت إلى أيقونة المرحلة، معبّرة عن قيم الرأسمالية التي وصلت إلى ذروة توحشها في ثمانينات القرن المنصرم. الفقر غير النبيل وها هي أميركا عادت بعد عشرين عاماً لتشهد انهياراً مماثلاً لبورصتها، ولتكون السينما بعد ذلك بسنوات قليلة حاضرة لتصفع العالم بعد ربع قرن بجملة خالدة جديدة ستصبح أيقونة السنوات المقبلة، على لسان بطل «ذئب وول ستريت» جوردن بيلفورت: «لا شيء نبيل في الفقر...». لم تأتِ أهمية فيلم «وول ستريت» فقط من تزامنه مع حدث كبير كانهيار بورصة وول ستريت، بل من جوهر بنائه السينمائي وعمق خطابه المطروح، فقد كانت «الضحية» فيه حاضرة في شخصية (مارتن شين)، النقابي في شركة طيران وجدت نفسها فجأة في ضربة احتيال استثماري مباعة ومقسمة، تاركة وراءها مئات العاطلين من العمل. وهو ما جعل منه نموذجاً للفيلم الجماهيري الناجح، لكن مع مسؤولية كبيرة في الطرح تجنبها فيلم «ذئب وول ستريت»، مفضلاً التركيز على طرح ذاتي يتأمل بنبرة سخرية مرتفعة في سلطة المال ومفترقاتها الحادة، الصاعدة باتجاه الإثراء من جهة، والهابطة داخل منحدرات الإفراط في المتعة واللذة من الجهة الأخرى، فبقي شديد الالتصاق بمنطقة التباس مشوشة. ذئب وول ستريت