هناك أناس يمرون بحياتنا مرور الكرام ننساهم بسرعة ولا يتركون أثرا، وفي المقابل هناك أناس إن كانت فترة معرفتهم قصيرة فلهم تأثير كبير ومن المحتمل أنهم لا يعرفون حجم هذا التأثير أبدا. كلمة من شخص ما قد تغير مسار حياتك وتفتح لك أبوابا كانت موصدة وأحيانا تكون كلمة كفيلة بأن تلهمك وتحفزك وتوجهك أو كلمة تؤكد بأن هناك من يُؤمِن بقدراتك وينتظر الإنجاز. أحد هؤلاء الأشخاص بالنسبة لي هو معالي الدكتور عبدالعزيز الساعاتي مدير جامعة الملك فيصل. عندما كنت في السنة الرابعة من دراسة البكالوريوس في كلية العمارة والتخطيط درسني مادة طرق البحث. مادة استثقلتها غالبية زميلاتي ولكنها وجدت لدي صدى وكأنها كانت مفتاحا ليفتح في داخلي بابا كان خفي وراءه الكثير من العجائب. الدكتور الساعاتي درسنا المادة بطريقة ممتعة واحترافية ودون تسطيح أو تبسيط ولعل هذا مما زاد إعجابي بها. كثيرا أسمع هذه الأيام شكوى الطالبات بأن إحدى المواد أعلى من مستواهن ولكن إن لم يكن لدينا ما نرتقي له واستمررنا على نفس المستوى متى نتعلم ونصل المستوى الذي يليه؟ الكتاب المقرر في مادة طرق البحث التهمته التهاما وكنت أقرأ فيه أكثر مما طلب منا واطلعت على مراجع إضافية للاستزادة. هل تعرف ذاك الشعور الذي ينتابك عندما بالكاد تستطيع وصف ما تقصده دون أن تعرف اسم الشيء وتحاول إيصال ما بداخلك ولكن تشك في أن من حولك فهمك؟ هذا كان شعوري حتى قرأت الكتاب ودرست المادة وعندها عرفت أنني أريد أن أكون باحثة وأن هذا ما كنت أوده من قبل دون أن أعرف ما هو. انفتح أمامي عالم آخر وبدأت أعي العالم من حولي بطريقة مختلفة ونظرة فاحصة. قرأت عن تجارب علمية ومنهجيات واضحة وأيضا إبداعية لتفهم مشاكل نعيشها. تعلمت الفرق بين المنهجيات الكمية والكيفية وأنواعها ومتى تستخدم. أعجبني بالمادة أن طرق البحث تجعلنا نستطيع الربط بين البيئة المبنية وسلوكيات الناس والتي في كثير من الأحيان كانت عكس السيناريو الذي يرسمه المصمم أو المعماري لكيفية الاستخدام. وأعجبتني بالتحديد المفارقات بين المتوقع والواقع. لماذا يصمم المعماري مدخلا فخما وعند افتتاح المبنى يتبين أن الغالبية تستخدم مدخلا جانبيا؟ ولماذا يفوز مشروع تطوير سكني بجوائز ومن ثم يضطر المسؤولون إلى هدمه لتحوله لوكر للجريمة والمشاكل الاجتماعية؟ ولماذا يعترض شخصان التقيا صدفة الرصيف دون التنحي جانبا للسماح بالمرور من جانبهما؟ أسئلة كلها من الحياة الواقعية وجدت لها طرقا للإجابة من خلال طرق البحث. هذه التساؤلات وأجوبتها ليست محصورة على ما بعد الحدث ولكن تفيد كذلك في مراحل التصميم لتحسين البيئات للناس فأصبحت أداة قوية استخدمها في استوديو التصميم. أضف إلى ذلك أنه منذ أن رأيت أحد البرامج في القناة الثالثة، قناة أرامكو المفقودة (وما زلت أتألم لفقدانها) عن ضرورة أن يمتلك الإنسان عقلا يسأل (inquisitive mind) وأنا أحاول أن أفهم عالمي من خلال طرح الأسئلة. وبهذا أجد أنني مشاركة للحدث ولست متلقية سلبية لا تستجوب ما يدور من حولها. عرفت حينها أنني أنا المسؤولة عن تعليمي وإن قبلت بالقليل جاءني القليل ولكن لا شيء يردني عن الاستزادة بنفسي. مادة الدكتور الساعاتي سمحت لي لأول مرة أن أطبق ذلك بشكل احترافي من خلال تطبيق على بحث خاص. أتذكر بأنني خضت التجربة بكل حماس وجدية وأتذكر انبهار أستاذي الذي لم يتوقع هذه الجدية من طالبة في السنة الرابعة. بعد تخرجي عملت مباشرة كمعيدة في قسمي وكان لدينا نقص في أعضاء هيئة التدريس. لا أذكر ما الذي منع الدكتور الساعاتي من تدريس مادة طرق البحث مجددا ولكنه عند سؤاله عمن يرشح لتدريسها ذكر اسمي وهي شهادة اعتز بها من أستاذي القدير. الدكتور الساعاتي أشعل لدي الحماس للمادة ووجهني في مجال العمل والتطلع المهني وأعطاني الثقة وتركني لأبدع. هكذا الأساتذة الملهمون الذين يثقون بما يقدمونه. القاعدة التي بناها قبل سنوات ما زلت أبني عليها. غرس بذرة وأعطاها كل ما تحتاج لتنمو ولم يعد يعرف أين زرعها ولعله من كثر ما زرع لا يعرف ما حصل للنبتة. اليوم أقول شكرا بكل امتنان وأدعوه ليرى بستانا تركه وراءه.