في إحدى حدائق الغربة تحتضن حفيدتها، تعدت الخمسين، تسرح بخيالها، إنها الآن تنظر في مرآة منزلها الريفي المتواضع، تتخيل كيف ستحيى في مكان غريب وهي التي لم تغادر قريتها حتى لمدرسة أخرى، آخر عهدها بالتعليم كان في مدرسة القرية.. أمها تنادي: هل انتهيتِ؟... السيارة تنتظر لبست الفستان، وضعت عليه عباءة سوداء أرسلها زوجها المُفترض، الزغاريد تلف المكان، تتخللها همسات وهمهمات المدعوين لوليمة الفرح، المدعوون يأكلون لحماً عزيزا، ضحية جديدة، لا يهم، لقد تبلد إحساسها منذ أن رفض أهلها الفقير الذي تقدم لخطبتها وفضلوا ذلك القادم. ما زالت الأم تنادي (هيا يا ابنتي)، أصبحت بكامل زينتها، أخذت حفنة من تراب بيتها، وضعتها بقطعة قماش، أحكمت غلقها، دستها بين ملابسها القليلة. العريس يريدها كما هي فقد رتب كل شيء، تمتمت بكلمات قليلة... يبدو أنه لا شيء يستحق البكاء، لملمت شتات عقلها، أطبقت كلتا يديها، ما المانع في التمتع بالقادم، قد يكون أفضل. حفيدتها الصغيرة تعيدها إلى الواقع، تهدهدها، تغني لها، ولها، تتذكر (نام نام، ونفسي أنا كمان، ع الزراعية يا رب أقابل حبيبي.. تنظر لعينيها، تتفادى النظر إليها، تعود حيث كانت، السيارة تتحرك بعد أن ودعها الجميع وعيناها تراقبان غرفتها من بعيد، تنساب دموعها، تكفكفها، وصلت المطار في أول رحلة خارج المحافظة، جمالها شد انتباه من في صالة المغادرة، يتهامسون (الحلوة دي من ال)، وهي في وهم وخوف دائمين، لم تركب الطائرة من قبل. تحركت، انتفض قلبها، تمسكت بالحياة عسى أن يكون القادم أفضل، غطت وجهها، عرفها من فستانها الأبيض الذي يخرج بعضه من تحت العباءة، ركبا السيارة، تفادت النظر إليه وشغلت عينيها بالطريق، تتخيل المنزل الجديد والأثاث الفاخر، تتسع عيناها حين ترى المباني الشاهقة، ودائماً تتفادى النظر للرجل الجالس بجوارها. وصلت للمنزل، منزل جميل، بارد، التزمت بنصائح أمها، تنتظره كل مساء، تُجهز له الطعام وتتهيأ له، لم يكن هناك شهر عسل، أيام متوالية متشابهة، ولدت ابنها البكر، تبعه آخرون، تزور وطنها كل مدة محملة بالهدايا، تجلس في بيت أبيها الذي أصبح جديدا عدا غرفتها والتي طلبت منهم عدم المساس بها فمازالت أرضها ترابا. تعود من حيث آتت، كبر أبناء الغربة، تبدل حالها، أصبح كل تفكيرها في الولد الكبير، يطلب الزواج، أقنعته بابنة خالته التي تشبهها، الأب مازال في العمل تاركاً لها أمر البيت والأولاد، تزوج الابن في شقة مجاورة وولدت الزوجة طفلة جميلة، تلك التي بين يديها، تشبهها. أفاقت على صوت قادم، أرخت غطاء وجهها، عادت للمنزل، فتحت قطعة قماش قديمة، اشتمتها في الرحلة التالية، قررت ألا تعود. عادت مرة أخرى. - محمد يوسف