×
محافظة الرياض

مؤتمر الأدباء السعوديين الخامس يكرِّم 3 مؤسسات و14 شاعرًا في الرياض

صورة الخبر

«في نهضة مصر، يعجب الناظر لأول وهلة بجلال وقفة المرأة التي تستنهض الحيوان الرابض، إلى التحفّز والنهوض. فإذا أعاد النظر وأعمل الفكر، أدرك أن المثّال لم يشأ أن يعالج المعنى الجوهري الذي أقام له القدماء «أبو الهول» عند عتبة الصحراء، فتعمّد الإلماع إلى سرّ الدهور الذي أطبق على شفتيه وسكت سكوتاً أبدياً واكتفى من الرمز بما يوافق نهضة قومية، فخلّد الرجاء الجديد في قلب الحجر». بهذه العبارات تحدثت الأديبة مي (ماري زيادة) في العام 1928 عن ذلك التمثال البديع الذي احتشد الألوف من سكان القاهرة ورجالاتها ونسائها وسياسييها وفنانيها ومفكريها الذين دعوا ليشهدوا رفع الستار عنه بعد ظهر يوم الأحد في العشرين من شهر مايو (أيار) من ذلك العام ليصبح للقاهرة أول نصب في ساحاتها يحققه مصري وعن موضوع مصري. يومها لم تكن مي الوحيدة التي كتبت عن «نهضة مصر» بكل ذلك الشغف. فالحال أن القصائد والمقالات والخطابات التي تناولت ذلك الحدث المصري الكبير يمكنها أن تشغل صفحات عديدة. لكن الأقوى من ذلك كله، بقي التمثال ذاته ومعناه. ولا سيما اختصار النحات وجه مصر بفتاة، وهو أمر إذا كان صدم كثراً فإنه في الوقت ذاته لاقى تأييداً من كثر أيضاً. والطريف أنه رغم مرور نحو تسعة عقود على شموخ تمثال «نهضة مصر» في قلب القاهرة النابض، لا يزال ثمة من بين العقول المتحجرة من يرفض وجوده. أما في ذلك الحين، يوم أقام مختار ذلك الصرح الوطني الكبير، فكان الحماس عارماً، وأحس كل مصري أنه معني بهذا العمل الفني الوطني الكبير الذي يربط حاضر مصر بتاريخها. > والحال أن مختار تعمّد ذلك الربط في وقت كانت الأمة المصرية تخوض العديد من الصراعات ضد الاستعمار البريطاني كما ضد التخلف الذي أورثها إياه الاحتلال العثماني، ناهيك بالتخلف الناتج عن تحجّر العقول. ومع هذا صمد «نهضة مصر» وليس فقط لأنه مصنوع من حجر الغرانيت الصلب، بل كذلك وبخاصة، لأن كثراً من المواطنين المصريين ساهموا يومها في كلفته. وكان هذا الأمر في حد ذاته جديداً أثار الهمم والحماس العام. > ومع هذا كله، فإن التمثال الذي يشمخ اليوم في الساحة المطلة على جامعة القاهرة معيراً الساحة اسمه لم يكن الأول، بل الثاني، إذ قبل ذلك كان محمود مختار خلال إقامته في باريس طالباً شاباً قد صب ثورته الوطنية الغاضبة منحوتة حققها في العاصمة الفرنسية وولدت لديه فكرة إقامة تمثال في القاهرة ذاتها يرمز إلى المعنى الذي توخاه. وكان ذلك في العام 1920، يوم شارك في معرض دولي باريسي وكان من بين قلة من الفائزين. وحينها، إذ كان سعد زغلول في باريس مع عدد من أعيان السياسة الوطنية تعرفوا إلى مختار، إذ فوجئوا بوجوده هناك وبنجاحه. وهكذا في مداولات مشتركة ولدت الفكرة التي رعاها السياسيون الوطنيون من كل الأحزاب والطوائف... وما إن انقضت سنوات حتى كان رفع الستار عن ذلك العمل الكبير الذي لا بد أن نذكر أنه أقيم أولاً في ميدان باب الحديد (رمسيس لاحقاً) لينقل في العام 1955 إلى حيث هو الآن في مواجهة جامعة القاهرة. > ويقيناً أن عمل مختار هذا يعتبر من أغلى الكنوز الفنية في مصر الحديثة، وحسبنا للتيقن من هذا أن نقرأ ما كتبه طه حسين عن مختار: «إنه من العسير على شباب اليوم أن يتصور ما استولى علينا من دهشة ومن عجب عندما بدأ الحديث عن مختار. فنحن وإن كنا أخذنا الآن نتحدث عن الفن وندرسه وننظم له المعارض، ونناقش ونصدر الأحكام، إلا أن أمور الفن كانت غريبة قبلاً على الشباب. لقد كان مختار معجزة أدهشتنا حتى سميناه النابغة، وعلى شباب اليوم أن يعلموا تماماً أنه إذا كان الفن الآن شيئاً معترفاً به تشجعه السلطات الرسمية، فإننا ندين بذلك لمختار، ولن ينسى له هذا الفضلَ أحد». هذا الكلام كتبه طه حسين في معرض حديثه عن مختار، إثر وفاة هذا الأخير وهو بعد في شرخ الشباب، عام 1934. ومختار يعتبر إلى جانب سيد درويش وطه حسين نفسه وأحمد لطفي السيد وأحمد شوقي، من الذين ساهموا، بشكل أو بآخر، في بناء الحداثة المصرية خلال الثلث الأول من القرن العشرين، وان كان مختار يتميز عن الآخرين بأنه حين طرق الفن والحداثة من باب النحت، كان ذلك الباب جديداً على الحياة الفنية في مصر، وفي العالم العربي كله، على رغم أن مصر القديمة وبعض أنحاء العالم العربي القديم كانت المهد الحقيقي لبروز ذلك الفن. > إذن، الجديد الذي جاء به مختار، كان ذلك الطابع الحديث والمعاصر الذي أسبغه على فن قديم أصيل ملبّساً إياه في الوقت نفسه، وعبر الحس القومي الذي أسبغه على العدد الأكبر من منحوتاته، بعداً سياسياً قومياً، شكّل في ذلك الحين جزءاً من النضال الذي كان يخوضه الشعب المصري بأكمله. ومن هنا لن يكون غريباً أن نذكّر بما حدث حين أعلن عن اكتتاب شعبي عام لإيجاد نفقات «نهضة مصر» وكان بداية شهرته والعمل الأول الكبير الذي أعاد إلى مصر فنها النحتي الجميل الذي كان قد نسي طوال قرون من الزمن. يومها تدفق الناس يقدمون مساهماتهم، لا فارق في ذلك بين ثري وفقير، ارستقراطي أو عامل أو مثقف أو فلاح. لقد أحست مصر كلها، يومها، أن ثمة نداء يغمرها يأتي إليها من سحيق الزمن، متضافراً مع حداثة يحملها مختار معه من باريس حيث كان يقيم ويدرس الفنون الجميلة. > ولد محمود مختار في قرية ريفية تقع بالقرب من مدينة المنصورة. وفي الوقت الذي كانت أسرته تعده ليدرس في الأزهر، كان الفتى يرتاد شواطئ الترعة ليصنع من طينها أشكالاً وتماثيل بدائية كانت الأساس الذي قام عليه لاحقاً حبه لفن النحت. وفي 1908، وكان لا يزال في سن الصبا، التحق كأول طالب في مدرسة الفنون الجميلة، وهناك لفت الأنظار بما يكفي لكي يرسله راعي المدرسة الأمير يوسف كمال إلى باريس ليتابع دراسة النحت. وهكذا توجه مختار إلى باريس ليقيم معها علاقة لن تنفصم بعد ذلك أبداً. وكانت باريس في ذلك الحين تسمى مدينة النور والفن، وكان سيد الفن الأكبر فيها النحات رودان، الذي سيتأثر مختار به كثيراً. وعلى الرغم من انغماس مختار في حياة باريس الفنية، فإنه ظل يتطلع إلى بلاده التي كانت تمور بشتى أنواع الغضب والثورة، وكان -وهو الذي لا يزال يذكر اشتراكه في التظاهرات المطالبة بالاستقلال والدستور- يتطلع إلى اليوم الذي يمكنه فيه أن يخدم تلك البلاد. وحانت الفرصة حين واتته فكرة إقامة نصب «نهضة مصر» الذي استمد عناصره من ثلاثة ينابيع: الطبيعة المصرية وأبنائها -التاريخ المصري وما تبقى من منحوتاته- والحداثة كما كانت تتجلى في ما وصل إليه النحت الفرنسي آنذاك. في البداية كما أشرنا، نفذ مختار التمثال في باريس في حجم صغير. > وكان ذلك النصب نقطة تحول في حياة محمود مختار، خاصة انه جعله يدرك أهمية ذلك الفن في حياة الوطن والناس، وتعزز ذلك لاحقاً حين حقق تمثالين لسعد زغلول واحدهما في الإسكندرية والثاني في القاهرة، وكذلك حين حقق تمثال «الخماسين»، والعديد من الأعمال الأخرى التي فتحت الباب أمام رياح فنية عارمة راحت تهب على مصر، ومكنت مختار من أن يتزعم الحركة الفنية في مصر، على رغم أنه كان يمضي جل وقته في فرنسا. وهكذا أسس جمعية «الخيال» وهدفها «إحياء الفن المصري ونشره بين الجماهير». ومن هنا حين رحل مختار باكراً عن عالمنا ولا يزال ذهنه عامراً بالأعمال والمشاريع، عُدّ رحيله خسارة قومية حسب تعبير كل الذين أبّنوه في ذلك الحين. والحال أن زيارة، اليوم، لمتحف مختار في الجزيرة، وسط القاهرة تكفي للتأكيد على تلك الفكرة.